برغم وفرة الأفلام الروائية الجميلة المعروضة في مهرجان دبي السينمائي الدولي الأول إلا أن الجمهور وبالذات الشاب منه قد وجه عنايته واهتمامه صوب نوع جديد ومتفرد، نوع ليس بالجديد عالمياً، لكنه في صالات العرض الخليجية يعرض لأول مرة بهذه الكثافة، وأعني بذلك «الأفلام القصيرة» التي لم تلق اهتماماً عربياً في السابق، رغم أنها -وهذا ما وضح في المهرجان- تمتلك جمهوراً كبيراً مخلصاً يستلذ بمشاهدتها ويحرص على متابعتها أينما حلت وارتحلت. وضمن فعاليات المهرجان كان هناك قسم خاص معني بهذه الفئة تحت اسم «أفلام عربية قصيرة» وبرئاسة السينمائي محمد مخلوف -مؤسس مهرجان الشاشة العربية المستقلة في لندن- الذي كان موجوداً في الأربع ليال التي توزعت عليها عروض أفلام هذا القسم، وفي تلك الأماسي تولى مخلوف التعريف بهذه الأفلام وبمخرجيها الشباب، وعند نهاية كل عرض كان يتولى إدارة الحوار الذي يتم بين هؤلاء المخرجين وبين الجمهور. والنهاية كانت سهرات ممتعة عرضت فيها أفلام متميزة لمخرجين عرب شباب من فلسطين ولبنان والعراق وسوريا والإمارات وعرب المهجر. وربما تكون أميز ليالي القسم هي الليلة التي خُصصت للأفلام الإماراتية، ومبعث تميز تلك الليلة أنها جاءت مفاجئة للكثيرين الذين لم يطرأ على بالهم قط نشوء فن حقيقي في أي من بلدان الخليج. وقد عرضت في هذه الليلة خمسة أفلام إماراتية، أو بالأحرى أربعة! وهي التابعة للقسم، فيما الخامس كان مستقلاً لوحده لا ينتمي لقسم «أفلام عربية قصيرة» ولا إلى أي قسم آخر، حيث عرض في ذات الليلة لكن تحت إشراف إدارة المهرجان الرئيسية وبرعاية الرئيس التنفيذي للمهرجان نيل ستيفنسون. والأفلام القصيرة الأربعة (طوي عشبة-الأرضية المبتلة-جوهرة-سجائر) ظهرت بشكل رائع ساحر -تحديداً أول فيلمين- أما الفيلم الخامس فهو فيلم تسجيلي اسمه (اكتشاف دبي) وهذا كان سيئاً بشكل كاد يمحو الجمال الذي فاضت به الأفلام الأربعة السابقة. (طوي عشبة) هو أفضل الأفلام، وقد اتخم بالرمز وظهر بشكل شاعري آخاذ، هو يحكي قصة قرية بها بئر كانت في العادة تفيض بالماء ليملأ حقول القرية، لكنها - أي البئر- في لحظة تغير وأصبحت تسير بشكل عكسي بحيث أخذت تسحب الماء من تلك الحقول لتعيدها من جديد إلى داخل الأرض، وتعاني القرية من الجفاف وأقحطت حقولها وانتشرت بها الفزاعات رغم خلوها من أي مظهر يدل على الحياة، وهناك طفلة صغيرة تسير، لا تلوي على شيء، فقط تترنح بين تلك الفزاعات. وهذه هي حياتنا التي فاضت بالمحاذير والممنوعات وضجت بأوامر تتنافى وطبيعتنا البشرية، وبشكل جفف حياتنا وجعلها كحقل كئيب مليء بالفزاعات وخال تماماً من كل ما هو حي، حتى من البسمة والبهجة. في هذا الفيلم البديع كانت الصورة-رغم مزاحمة طفيفة من الحوار- هي النجم الأول، إذ قامت هي وحدها بإيصال تلك المعاني العميقة والمؤثرة بأسلوب بسيط غير مباشر البتة. الفيلم الذي أبهرني تماماً، هو من إخراج الشاب وليد الشحي في خامس تجاربه الإخراجية، ولما كان الأسلوب الذي انتهجه في فيلمه نخبوياً اختص به مجموعة من المخرجين العالميين أصحاب النزعة السريالية، ولأن وجود مثله في دولة فتية كالإمارات يعد استثناءً، فقد توجهت بالسؤال لوليد عن كيف امتلك القدرة على صياغة الصورة بهذا الشكل، هل درس، أم شاهد، وما مصادره التي جعلته يحلق بصورته وحيداً بعيداً عن جميع الأساليب التقليدية الرائجة في الخليج؟ فكان جوابه كالتالي (طبعاً وفي البداية سأذكر لك أن أفلامي الثلاثة الأولى كانت تقليدية تماماً ولا تحمل جديداً على مستوى السرد، وما جعلني أتحول أو بالأحرى أتغير هو انتمائي لاتحاد كتاب الإمارات، فمن تلك اللحظة تغير تفكيري واتسعت آفاقي وبت استطعم قراءة القصيدة الحداثية، ومع الوقت وتكريس هذا الاهتمام نشأ لدي تصور عن السينما الشعرية أو القصيدة السينمائية، حتى توصلت - أنا والشاعر أحمد سالمين كاتب السيناريو- للتصور النهائي الذي رأيت انعكاسه في فيلمي الأخير.. أما عن المشاهدات فبالطبع تأثرت بمشاهداتي كثيراً وبالذات لرواد هذا الأسلوب كالروسي أندريه تاركوفسكي). أما عن تقبل الجمهور لمثل هذا النوع النخبوي؟ يضيف وليد (في البداية أنا لا أتوقع قبولاً تاماً، لكن بتكريس أفلام من هذا النوع وفرضها على المتلقي أعتقد أنه سيجد نفسه في نهاية الأمر مرغماً على استيعاب وفهم وبالتالي قبول فيلمي وكل الأفلام التي تنتهج ذات الأسلوب). الجدير بالذكر أن هذا الفيلم هو الخامس لوليد الشحي بعد أفلامه (الشهيد 2001 - شواهد القبور 2001 - النزيف 2002 - وجوه ونوافذ 2003). (الأرضية المبتلة) في هذا الفيلم لا حوار أبداً، فقط صورة وموسيقى وسريالية فاتنة، القصة أو الفكرة ليست بذلك الوضوح لكن تستطيع أن تستجلي بعض خيوطها من خلال بعض اللقطات التي يبدو واضحاً فيها وجود امرأة تعرضت إما لخيبة أمل أو غدر من حبيبها. الفيلم من إخراج الشابة لمياء قرقاش التي أوضحت لنا أن الفيلم مجرد وصف شعور أو حلم أو ذكرى لا تزال تعيش داخل هذه المرأة، نحن في الفيلم موقعنا كمشاهدين هو في داخلها، فنحن نرى ما يختلج في لا وعي هذه المرأة المغدورة. ولما سألت لمياء عن كيفية وصولها إلى هذا المستوى من الفهم والإدراك للمذهب السريالي، وهل شاهدت أعمال المخرج الأمريكي السريالي ديفيد لينش مثلاً؟ أجابت : (لا.. أنا لم أشاهد أفلاماً من هذا النوع، لكن قرأت عن السريالية ولدي إدراك لماهيتها وللشكل الذي ينبغي أن تظهر عليه، لذلك حاولت في فيلمي المزج بين ما أعرفه على المستوى النظري عن السريالية وبين الصورة التي هي عشقي الأول، أنا منذ أن التحقت في الجامعة الأمريكية في الشارقة وأنا مدفوعة تماماً نحو دروس التصميم، فالصورة كانت هي مبلغ همي، وهي التي جعلتها نجمة فيلمي الأول). أما عن مشاريعها القادمة، فتجيب لمياء (أنا أخطط الآن لشراء كاميرتي الخاصة وفي الوقت ذاته أعمل وإحدى الصديقات على معالجة نص فيلم قصير سيكون هو بإذن الله عملي القادم). وعن هدف لمياء وغايتها من فيلمها هذا وأفلامها القادمة، تقول (بداية أنا لا أرى نفسي منساقة إلى الإخراج، بمعنى أنني لا أتوقع الاستمرار فيه، هي حالة معينة رأيت في وسطها أن أحقق ذاتي وأن أشبع طموح معين امتلكني لفترة مؤقتة، الآن حققت ما أبغيه، لكن إن كان هناك من نية في الاستمرار في هذا المجال فهو بصفتي منتجة لا مخرجة، حيث أنوي إنشاء شركة إنتاج خاصة بي، سترى النور حال انتهائي من تقديم رسالة الماجستير). (جوهرة) فيلم تقليدي نوعاً ما في سرده، لكنه جميل، ويحكي قصة إنسانية مؤثرة عن طفلة صغيرة بريئة اسمها «جوهرة» تعيش حياتها بين خلافات الأهل ومشاكلهم التي لا تحصى، فالأب سكير والأم مبتعدة عن أهلها، والفتاة الصغيرة تعيش مشتتة تائهة مع الجد والجدة المحافظين، ورغم هذا الشتات إلا أنه يعتبر نعيماً إذا قرناه بما هو قادم، بذلك الألم الذي سيظل ملازماً لها العمر كله، والذي سيكبلها إلى الأبد! الفيلم من إخراج هاني الشيباني، حاز جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان أفلام من الإمارات، وكذلك في مهرجان فيلم الشرق الأوسط في بيروت عام 2003، وحاز تنويهاً خاصاً من مهرجان قرطاج السينمائي. الفيلم من إنتاج شرطة دبي!. (سجائر) بدأ هذا الفيلم بمشهد ذكرني ببداية فيلم «اقتل بيل» لكوينتن تارنتينو، حيث ظهرت في بداية الفيلم الفنانة مريم سلطان باللونين الأبيض والأسود وهي ممسكة بسيجارة تتحدث بطريقة هستيرية يتضح منها وجود معاناة ما في نفس هذه المرأة. تسلسل الأحداث يشي بسر هذه المعاناة. الفيلم تقليدي نوعاً ما، عادي، المميز فيه أداء الممثلين والحوار. وهو من إخراج محمد الطريفي والذي حاز فيلمه الأخير «ثمن الدموع» شهادة تقدير من مهرجان أفلام من الإمارات. (اكتشاف دبي) وهو الفيلم الخامس الذي ذكرنا أنه لا يتبع لهذا القسم، إنما عرض عرضاً خاصاً في ذات الليلة وذات الصالة عقب انتهاء عرض الأفلام الأربعة السابقة. الفيلم كان سيئاً بحق، ولا فكرة فيه البتة. المخرجة الإماراتية نائلة الخاجة تحدثت قبل عرض الفيلم عن سبب صنع الفيلم حيث أوضحت أن الفكرة هي محاولة تغيير الصورة النمطية الخاطئة المأخوذة عن دبيوالإمارات بشكل عام. هي تقول (حين كنت في كندا ساءني حديث شاب ألماني عن دبي حيث وضح أنه يجهل من نكون، لذلك قمت بالتخطيط لرحلة نأخذ فيها هذا الشاب الألماني إلى مدينة دبي ليطلع هو بنفسه على حجم التطور فيها). إلى هنا وكل شيء جميل، لكن حال بدء عرض الفيلم سيصيبك غثيان شديد من ركاكة الفيلم وسذاجته، ومن كونه يدعي أشياء نبيلة لكنه لا يحقق شيئاً منها، بل على العكس هو يكرس مما يدعي محاربته، فهو يدعي محاولة تغيير الصورة النمطية المعروفة عن العربي بصفة عامة والمترسبة في ذهن الغربي، ومع ذلك هو يلعب على ذات الوتر ويقدمنا تماماً كما يتصور الغربي عنا، أضف إلى ذلك أن الفيلم قصر حضارة دبي على الإسمنت وعلى المباني والتي هي موجودة سلفاً في ذهن هذا الألماني والذي أعتقد أنه ما جاء إلا من أجل اكتشاف «إنسان» دبي الذي اختفى تماماً في هذا الفيلم. نائلة الخاجة لما أبلغناها بملاحظاتنا هذه أجابت (إن النسخة التي شاهدتموها ليست هي النسخة النهائية التي أرسلتها لإدارة المهرجان، بل هناك نسخة أخرى أكثر تنقيحاً لم تعرض لكم، ثم إن السيناريو وجد تدخلاً كبيراً من المنتجين الذين أضافوا محاور كثيرة في الفيلم بشكل أدى إلى اختلال هدفه). قلت لها (لكنك حين اعتليت المنصة حفزتينا لمشاهدة تحفة تحوي أفكاراً إنسانية عميقة، لكننا لم نجد شيئاً؟).. صمتت قليلاً وأجابتنا بنظرة مفادها (لا تعليق)!.