ما أن هدر صوت المحرك الخافت للدراجة النارية، حتى شعرت أننا نطرُق باب التاريخ، نمخر عباب أزقة "روما" بأرصفتها الحجرية، تلك التي سار عليها الفلاسفة والعشاق والفنانين، تبصر القباب العتيقة تلمع من بعيد، ثم تتسع الأزقة الضيقة أمامك، وكأنما تفتح المدينة ذراعيها لاستقبالك، ويصبح لكل منعطف حكاية، ولكل نظرة ذكرى لا تنسى. منذ سنوات وأنا أفكر بتجربة قيادة الدراجة النارية التي اشتهرت بها إيطاليا، وبالذات عاصمتها روما، خاصة وأن تجربة "الفيسبا" -وهذا اسمها التجاري التي اشتهرت به- ليست مجرد وسيلة تنقل، بل هي طقس روحي يعيدك إلى قلب المدينة، ويمنحك شعوراً بأنك بطل مشهد سينمائي، كما هو الفيلم الشهير "إجازة رومانية" وغيره كثير، حين تتعانق الرياح مع دهشتك، وتترك وراءها خيوط الزمن ترفرف أمامك. تعود قصة الدراجة النارية الإيطالية إلى الحرب العالمية الثانية، إذ فُرضت على إيطاليا بعد هزيمتها قيودٌ على صناعات الطيران، ناهيك عن تعرض مصنع الطيران في "بونتديرا" إلى التدمير الكامل، مما قاد ابن مؤسس شركة "بياجيو" إلى تغيير تخصص الشركة من بناء الطائرات إلى ابتكار وسيلة نقل رخيصة، وكان أن استعان بمهندس الطيران "كورادينو دي آسكانيو"، وطلب منه تصميم مركبة بسيطة، تصلح لكلا الجنسين، وتحمل أوزانا ثقيلة نسبياً، والأهم أنها لا تلوث الملابس! أبدع "آسكيانو" دراجة نارية بشكل مختلف عما سواها، لدرجة أن "أنريكو بياجيو" حينما شاهد التصميم، أطلق عليها اسم "فيسبا"، الذي يعني الدبور باللغة الإيطالية، كونها تشبه الدبور! نجحت الدراجة النارية وحققت انتشاراً واسعاً في الخمسينيات والستينيات، وأضحت جزءاً من حركة وموضة الشباب، وأيقونة للعاصمة روما، ومنها إلى أوروبا وبالذات بريطانيا، وظهرت في الكثير من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية. بدأت رحلتي من أمام المدرج الروماني "الكولوسيوم" إلى حديقة البرتقال، وبعدها لم أتردد، فطلبت من السائق أن أتولى القيادة بنفسي! فهي تجربة لا أرغب تفويتها، تمضي بسرعة بين الشوارع، تتقدم نحو المرتفعات، تلحظ طفلٍ يلاحق حمامة، وفتاة تقفز بخفة فوق بركة ماء، شاب يلوّح بيده لصاحبه، مع الوقت تتماهى مع ضجيج المدينة، وتدرك أنها مفعمة بالحب ومتدفقة بالحياة. ومنها إلى ساحة البندقية الضخمة، فقلعة القديس أنجلو، السلالم الإسبانية، نافورة تريفي، وغيرها، تدرك أن روما ليست فقط مدينة تاريخ، بل هي مسرحٌ يومي للحياة، حين تعبر جسر "تيبِر"، أو تمر بجوار الكولوسيوم، الرياح العابثة تشد سترتك، وشمس الربيع تداعب وجهك، تشعر أنك جزءا من لوحة هائلة، وأنك لم تعد غريباً. مناورات بين السيارات، وتجاوزٌ للمارة، إحساسك أنك تملك المدينة ولو لدقائق! ستظل هذه اللحظات محفورة في ذاكرتي، لأن قيادة "فيسبا" روما لم تكن مجرد مغامرة عابرة؛ بل قصيدة ذكرى ماضي لن يعود، وبهجة روح تحفر في سجل الذكريات.