كثيرًا ما يؤجل الإنسان لحظات الاستمتاع والفرح؛ انتظارًا للحظة مثالية مقبلة، وهذا ما يسمى في علم النفس بتأجيل الإشباع، أي قدرة الفرد على مقاومة الإغراء للحصول على مكافأة فورية من أجل الحصول على مكافأة أكبر لاحقًا. وإذا ما تأملت الواقع، فكثيرًا ما نؤجل لحظات أفراح وسعادة في حياتنا تحت ذريعة "المستقبل"، فقد تبدأ هذه العادة في مرحلة الدراسة الجامعية، وتستمر عبر مختلف مراحل الحياة، مما يجعلنا نعيش في حالة من التأجيل المستمر دون أن نعيش اللحظة التي بين أيدينا، فنجد بعض طلاب الجامعة بدلًا من استمتاعهم بكونه طالباً جامعياً، أو بلحظة نجاح في اختبار، أو تكوين صداقات جديدة، أو انخراط في أنشطة جامعية، نجدهم يعتقدون أن حياتهم لن تبدأ إلا بعد التخرج، فيقول الواحد منهم: "سأعيش فرحة حياتي حين أحصل على شهادة البكالوريوس"، ولكنه عندما يتخرج، يكتشف أن التخرج لم يكن سوى بداية لقائمة طويلة من التوقعات، فالسعادة في نظره حينما يجد العمل والوظيفة المناسبة، وبعد الوظيفة، ينتقل الفرح والسعادة بعدما يتزوج، وبعد الزواج يرى أن السعادة مع قدوم الأطفال، ثم الحصول على السكن المريح، ثم ينتظر الفرح والسعادة مع الحصول على الترقية في السلم الوظيفي، ثم يبدأ يبتعد سراب الفرح والسعادة إلى الوصول إلى التقاعد والراحة من ارتباطات ومتطلبات العمل والدوام المستمر، وتستمر قائمة التأجيل، دون أن يتذوق الطعم الحقيقي للفرح والسعادة. هذا السلوك لا يقتصر على الطلاب فحسب، بل يمتد إلى حياتنا اليومية، فكم من مرة اخترنا أن نحتفظ بشيء جميل لم نستخدمه بعد، مثل سيارة جديدة يحتفظ بها صاحبها ولا يقودها إلا في نادر الأوقات، على اعتقاد أن القيادة يوميًا قد تؤدي إلى تآكلها أو فقدان رونقها، متجاهلًا أن السيارة صُنعت لتُستخدم ويُستمتع بها، أو قلم فاخر، أو فستان غالٍ، أو عطر غالٍ؛ خوفًا من أن تتلف أو أن نفقد جزءًا من بريقها، بل قد نحتفظ بها في خزائننا لسنوات، متأملين في الوقت المناسب الذي نعتقد أنه سيأتي ليمنحنا الحق في الفرح والاستمتاع بها، متناسين أننا قد حصرنا أنفسنا في فكرة أن الأشياء ليست جميلة إلا عندما نراها في حالتها المثالية، مما يؤدي إلى فقدان متعة استخدامها في الوقت الحاضر. الأمر ذاته ينطبق على الطريقة التي نعيش بها حياتنا بشكل عام، حيث نشعر بأن الفرح يجب أن يكون مؤجلًا إلى مرحلة معينة: "عندما أصبح في هذا المنصب" أو "عندما أحصل على ذلك التقدير". وهكذا، ننتقل من مرحلة إلى أخرى، ونحن دائمًا على استعداد للانتقال إلى "المرحلة التالية" التي ستكون أجمل وأفضل، لكن الحقيقة أن هذه الفكرة عن الحياة تجعلنا نغفل عن أن الفرح لا يمكن أن يُعاش إذا كنا نعتقد أنه محصور في لحظة محددة مقبلة، فالحياة التي نقيمها الآن هي التي تصنع تجاربنا، ومهما كانت المرحلة التي نمر بها، هناك دائمًا فرصة للتمتع بلحظات جميلة، وإذا قصرنا سعادتنا على المستقبل، سنجد أنفسنا قد فقدنا جزءًا كبيرًا من الحياة ونحن نركض وراء شيء لا ندرك قيمته في لحظته. هذا المبدأ يمكن تطبيقه على حياتنا الشخصية أيضًا، فالحياة نفسها، بكل تفاصيلها، هي شيء يجب أن نعيشه الآن، لا تنتظر اللحظة المثالية، لأن الحياة في ذاتها هي الكنز الذي نملكه، فيمكننا الاستمتاع بالقدرة على ذكر الله تعالى والتأمل في مخلوقاته وعجائب قدرته، ونستطيع أن نستمتع بعافية أبداننا، وسلامة أطرافنا، وحواسنا، وغيرها الكثير والكثير من تفاصيل حياتنا اليومية البسيطة، دون أن نبقى في رحلةٍ لا تنتهي من الانتظار، نعلّق سعادتنا على محطة مقبلة، ونؤجل لحظاتنا الجميلة في سبيل أهداف لم تأتِ بعد، وبين هذه وتلك، فقد تغيب عنا قيمة هذه اللحظات، وقد يضيع منا الكثير مما كان يستحق الفرح، فقط لأنه لم يكتمل بعد أو لم يكن "كبيرًا بما يكفي"، وكل ذلك هو لحظات فرح مؤجلة.