في أول مئة يوم له في البيت الأبيض، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياساته الخاصة على الساحة الدولية، متسببا في تقويض التحالفات التقليدية، وإعادة رسم ملامح النظام الجيوسياسي العالمي. سياسات "أميركا أولاً": عزلة مدروسة أم هيمنة جديدة؟ تحت شعار "أميركا أولاً"، فرض ترامب مجموعة من التدابير الاستثنائية، من فرض رسوم جمركية شاملة على الدول الصديقة والعدوة على حد سواء، إلى تهميش الحلفاء الأوروبيين، وتخفيض ميزانيات المساعدات الخارجية بشكل كبير. رؤيته للعالم لا تبدو انعزالية بالكامل، لكنها تقوم على نهج أحادي واضح، يعتمد مبدأ "الصفقات" كأساس للعلاقات الدبلوماسية، وهو أسلوب قائم على الأخذ والعطاء بدلاً من التفاهمات التقليدية. رئيس المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مارك ليونارد، وصف هذا التحول قائلا: "إدارة ترامب قضت على كل المسلّمات الدولية. لم تعد هناك حدود واضحة بين الحرب والسلام، بين الحلفاء والأعداء، أو بين المصالح الوطنية والخاصة". وكتب ليونارد عبر موقع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "مع شنّ ترامب حرباً تجارية على مختلف دول العالم، وسعيه لعقد صفقات لاستغلال المعادن في أوكرانيا، وتهديده السلامة الإقليمية لغرينلاند وبنما، أصبحت القواعد القديمة للنظام الدولي غير قابلة للتطبيق". ترامب "صانع سلام" وسط أجواء مشتعلة رغم هذه السياسات التصادمية، يقدم ترامب نفسه على أنه "صانع سلام"، ويتفاخر برؤيته لتحقيق "السلام عبر القوة". كما أبدى استعداداً للدخول في مفاوضات غير مسبوقة مع خصوم تاريخيين، مثل روسياوإيران. غير أن مرور المئة يوم الأولى أظهر مدى صعوبة تحقيق الاستقرار. فقد استأنفت إسرائيل هجومها العسكري على قطاع غزة، مما أدى إلى انهيار اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس. في الوقت نفسه، كثّفت الولاياتالمتحدة ضرباتها ضد الحوثيين في اليمن، بينما استمر النزاع في أوكرانيا بلا هوادة. تقارب لافت مع موسكو: نهاية عزلة بوتين أحد أبرز ملامح التحول في السياسة الخارجية الأميركية كان التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فمن خلال إعادة فتح قنوات التواصل مع الكرملين، أنهى ترامب عزلة بوتين التي فرضتها إدارة الرئيس السابق جو بايدن والدول الغربية إثر الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022. أجرى ترامب وبوتين مكالمة هاتفية في فبراير، مهدت لانطلاق تقارب استراتيجي بين البلدين، رغم أن ذلك جاء على حساب دعم أوكرانيا. لاحقاً، انعقدت مفاوضات أميركية روسية غير مسبوقة في السعودية، حيث وضعت واشنطن شرطاً لإنهاء الحرب الأوكرانية كمدخل لاستعادة العلاقات. كما ألمحت مصادر دبلوماسية إلى احتمال عقد لقاء مباشر بين ترامب وبوتين في السعودية قريباً. في هذا الإطار، شددت واشنطن من لهجتها تجاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ففي لقاء شهير في البيت الأبيض، شن ترامب ونائبه جاي دي فانس هجوماً علنياً على زيلينسكي أمام وسائل الإعلام. الأوروبيون الذين تم تهميشهم عن المفاوضات الأولية، سارعوا لعقد اجتماعات ثلاثية الأسبوع الماضي في باريس، بمشاركة مسؤولين أميركيين وأوروبيين وأوكرانيين، مع خطط لاجتماع جديد في لندن خلال أيام لبحث سبل إنهاء الصراع. مع ذلك، ومع تعثر مباحثات الهدنة، هدد ترامب بالانسحاب من المناقشات إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سريع. مفاوضات حذرة مع إيران وسط تصعيد التهديدات على صعيد آخر، دخلت إدارة ترامب في محادثات غير مباشرة مع إيران، الخصم التاريخي للولايات المتحدة منذ الثورة الإسلامية عام 1979. عُقدت جولتان من المفاوضات بين واشنطنوطهران عبر وسطاء في سلطنة عمان وروما، بقيادة المفاوض الأميركي ستيف ويتكوف، وهو من أصدقاء ترامب المقربين. رغم تبني إدارة ترامب لسياسة "الضغوط القصوى" تجاه إيران، شدد المسؤولون الأميركيون على تفضيلهم للحل الدبلوماسي، مع الاحتفاظ بخيار التدخل العسكري لمنع إيران من حيازة سلاح نووي. وكان ترامب قد انسحب أحادياً عام 2018 من الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين إيران والقوى الكبرى، والذي نص على تخفيف العقوبات الدولية مقابل كبح برنامج طهران النووي. وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، وكبار المسؤولين في الإدارة، أكدوا مراراً أن ترامب "يفكر خارج الصندوق" وأنه "الشخص الوحيد" القادر على تحقيق اتفاق مع إيران. انسحابات دولية وقرارات مثيرة للجدل داخلياً لم تقتصر قرارات ترامب المثيرة للجدل على السياسة الخارجية فقط. فقد أعلن انسحاب الولاياتالمتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، كما انسحب من منظمة الصحة العالمية، متهماً إياها بالتقصير والانحياز. على المستوى الداخلي، أقر ترامب تخفيضات ضخمة في ميزانية المساعدات الخارجية، مبرراً ذلك بالرغبة في مكافحة الهدر وتقليص البرامج الداعمة للتنوع والمساواة والشمول. كما شدد من سياسة الهجرة، حيث رحل المهاجرين غير النظاميين، وأرسل بعضهم إلى سجون مشددة الحراسة في السلفادور. وفي إطار حملته على عصابات المخدرات المكسيكية، صنف ترامب هذه العصابات كمنظمات إرهابية أجنبية. كوريا الشمالية: الغائب الأكبر عن أجندة ترامب في تطور لافت، غابت كوريا الشمالية عن دائرة اهتمام إدارة ترامب خلال هذه الفترة، رغم التوترات التاريخية والعلاقة المعقدة التي جمعته بزعيمها كيم جونغ أون خلال ولايته الأولى، والتي اتسمت بتهديدات عنيفة تلتها لقاءات ودية، قال ترامب عنها إنه وكيم "وقعا في الحب".