غرف كفها حفنات القمح المتناثرة من حجرتي الرحى لتملأ به معدتها الضامرة، وترتق الأقمشة المهترئة لتجعلها أغطية للأباريق، وتسير متمتمة بكلمات لا يفهمها إلا من يعرف بأنها تستغفر، وتعرض عن حديث نسوة حارتها وهن يستعرضن أخبار آخر نقشات الذهب وأنواع الأقمشة فتجد براعتها في السوق، وتسقط مغشيًا عليها لتخبر طبيعتها عن بقعة الدم خلف ثوبها لتقتلعه وتلبس فستانًا يحاكي أنوثتها الكامنة بداخلها، تمسك بطرف برقعها لتحجب صدغها الذي كشفت عنه نسمات الهواء، وتركض إلى المذياع لتقطع صوت المغنية بعدما سمعت نداء المؤذن لصلاة الظهر، تهذي باسم ابنها الغائب وجبينها يطبخ من شدة الحمى. كلها مشاهد عادية لأحوال أنثوية أضافت معنى آخر لحياة تسير نحو التمدن فتتماهى هذه الصور مع تلون الحياة وتطورها من داخل أسوار البيوت في رواية غراميات شارع الأعشى، والذي ترى فيها عزيزة خمول أبنائها ورتابة أيامها، وتتمنى لو تنظر من كوة تحملها خارج هذه الأسوار إلى مصر لتشاهد سعاد حسني وهي تصعد الحافلة وفاتن حمامة وهي تأكل الذرة، فتكشف عزيزة عن غطائها لتقضم الملبّس وتتحدث مع مارٍ تعرفه على شاطئ نهر النيل. وتعجب من رضوخ أختها أمام مصيرها الذي لم تحاول أن تغير فيه شيئًا بينما هي تحلم بعالم تختار فيه اسمًا جديدًا وعملًا وحياة أخرى، ثم تسقط تلك الآمال المحطمة وهي ترى أخاها يشعل النار في كتب أنيس منصور وعبدالله القصيمي فتتخطف مجلات تتزين بصورة نجوى فؤاد، ولكن يخبرها بأن زمانهم قد انتهى، وهي لا تزال تتشبث بالأمل الذي يلح عليها بأنها ستجد في يوم ما مكانًا لها في تلك البلاد. تعيش مغامرة خيالها بأن هناك من سيلحق بها وهي في شقتها الجديدة، ولكن في الواقع لا ينظر إليها أحد من المارين وهي في السيارة مع أستاذتها معلمة الإنجليزي وأخيها طبيب العيون عندما كانت معهما تتناول عشاءها في حضرة سفورها. وبعد كل هذا الحب الذي استمر لشهور طويلة ولأول مرة ترى هذا القبح في وجه محبوبها عندما أسفرت الظروف عن خبث عقل الحياة ودمامة وجهها، فلم يقدم معها على ما خططت لأجله، لتعود إلى حياة الواقع في حدودها الضيقة وملامحها الواضحة، فحياتها ليست كحياة كريمة مختار التي هي مرة محتشمة ومرة عارية، فلقد ظلت تتخبط في وسط غيمة ظنت بأنها ستأخذها إلى داخل فوهة السماء حيث شهب ومجرات تسبح فيها أفكارها وأحلامها الجميلة، وتلك الكوة التي نظرت منها إلى العالم قد خدعتها وكأنها في كل أيام حياتها كانت عاصبة العينين من بعد حالة مرضية منعتها من رؤية العالم بوضوح. بينما النساء يضعن مصابيح أمام بيوتهن قبل أن يحل الليل بظلامه وهي لا تنظر إلى طريقها حتى حين ترفع بغطائها وعندما تستقل السيارة بحضرة مرافقها فتجوب شوارع الرياض إلى حيث جامعتها ثم تعود إلى منزلها وهي لا تبصر شيئًا فلربما لم تنقشع تلك الغمة التي تغشتها ولم تنفك عن ذلك اللثام الذي حال بينها وبين الغناء للحياة، ولكنها ليست كشادية وليست كنجاة الصغيرة، ولن تصدح بصوتها كأم كلثوم، ولن تتمايل في فرحتها كسعاد حسني وهي تغني: يازوزو خلي بالك من زوزو.