عندما فرض دونالد ترمب تعريفاته الجمركية الشاملة، التي امتدت لتشمل العالم بأسره حتى الجزر غير المأهولة، جاء الرد سريعا حادا من مختلف الأصعدة. فقد حذّر الاقتصاديون من اندلاع حروب تجارية عنيفة، وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وانهيار سلاسل الإمداد الحيوية، فضلاً عن تبعات جيوسياسية قد تؤدي إلى اضطرابات عالمية. أصوات عديدة أدانت هذه السياسات، منها الاقتصادي الشهير بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل، الذي وصف هذه السياسات بالجنون الاقتصادي، معتبرا إياها مؤشرا على انحدار النظام الاقتصادي الأميركي. ورغم ذلك، ليس جديدا اعتبار السياسات المثيرة للجدل في وقتها سياسات راسخة في وقت لاحق. ويعد الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز مثالا بارزا. ففي أعماق الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، دعا كينز الحكومات إلى زيادة الإنفاق العام لتحفيز الطلب، حتى وإن أدى ذلك إلى عجز مالي، متحديا المذاهب الاقتصادية السائدة التي أيدت الترشيد والميزانيات المتوازنة. ورغم الرفض الأولي والانتقادات اللاذعة، أصبح اقتصاد كينز حجر الزاوية في السياسات المالية الغربية، وعاد تأثيره ليظهر بقوة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، مما أكد صحة أفكاره على المدى الطويل. واليوم، يبدو أننا على مشارف مرحلة جديدة، حيث قد تُتخذ قرارات سياسية بواسطة أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل بيانات معقدة تفوق قدرات العقل البشري التقليدي. وقد تبدو تلك القرارات في البداية غامضة وغير مبررة، تماما كما كان الحال مع سياسات كينز في وقتها. إلا أن جوهر التحدي يكمن في تعامل متخذي القرار مع سياسات يصعب تفسيرها وفهم منطقها، فتواجه شعوبها قرارا صعبا بين الثقة المطلقة في قدرات الذكاء الاصطناعي وبين ضرورة النقاش والمساءلة السياسية. إن التاريخ يعيد نفسه في كثير من الأحيان، إذ تبين أن الأفكار التي بدت مدمرة أو خارجة عن المألوف لم تكن خاطئة، بل كانت متقدمة لدرجة تجعلها تبدو غير قابلة للفهم في زمنها. وربما نقترب الآن من عصر تُبنى فيه القرارات السيادية على توصيات أنظمة آلية معقدة، مما يستدعي منا تبني نموذج جديد للمعرفة مبني على الفهم والحوكمة يشمل التقنية والتفكير النقدي معا، لضمان أن تظل الحوكمة مبنية على أسس من الشفافية والمساءلة. في ضوء ما سبق، يظهر التحدي الأكبر في توافق المجتمعات مع هذه التحولات التقنية. كيف لأنظمتنا أن تتكيف مع الابتكار الذي يعود لنا بما نعجز عن فهمه؟ إن التحديات التي تواجهنا في المستقبل تطلب منا تطوير آليات النقد والحوكمة بما يتناسب مع درجات التعقيد التي نواجهها. قد تبدو القرارات غامضة في ظاهرها، لكن قد تحمل في طياتها رؤية مستقبلية ثاقبة. في التاريخ أمثلة لهذه الفترات التي التمعت فيها العبقرية، وكنا عاجزين عن مجاراتها حتى أثبتت صحتها بعد أن تأخر اعترافنا بها.