ست ساعات في الطائرة كي تمر دون ملل اخترت من ضمن باقة الأفلام المتوفرة على متنها مشاهدة فيلم عن الفنانة التي لطالما كان مشوارها عذباً ومشوقاً بالنسبة لي «سيلين ديون»، والتي كانت في الرياض قبل أسابيع بعرض مبهر خلال حفل مصمم الأزياء الشهير إيلي صعب بالتعاون مع الهيئة العامة للترفيه؛ وكان أداؤها رائعاً وأعادها بعد غياب ليس فقط للساحة الغنائية والفن الذي هو عالمها منذ وقت مبكر من حياتها بل إلى الظهور الإعلامي والاجتماعي بعدما ألمّ بها اضطراب عصبي نادر جداً (متلازمة الشخص المتصلب) والذي لم يتم تشخيصه مبكراً، بينما عانت كثيراً وفقدت صوتها في أحايين كثيرة، مما دعاها لوقف كل حفلاتها ومشاركاتها التي يتوق لها جمهورها الذي يحترم فنها ومشوارها ومسارها الفني. لقد تحدت سيلين ديون مرضها العضال الذي تحدثت عنه لأول مرة قبل ثلاثة أعوام مبرّرة سبب غيابها، تاركة الباب مفتوحاً للجمهور الذي افتقدها لمساندتها معنوياً خاصة أنها كانت تركت لفترة الحياة العامة والحفلات وابتعدت عن الأضواء التي كانت تعشقها وتزهر فيها كوردة الشمس الزاهية. قررت العودة للمسرح الذي عشقته، الذي كانت أقدامها تهز خشبته وتدق الأرض طرباً مع هتافات الجمهور وذبذبات صوتها، والآن لما لم تعد تملك السيطرة على صوتها حاولت إيجاد حلول مع الفرقة الموسيقية والمايسترو لتسند الصوت المنكسر الذي يخفت في أحايين كثيرة عبر خدع فنية. مقاومة الانكسار.. تخطي المرض.. والانتصار على تحديات لم تكن في الحسبان هي سمة الإنسان الذي يؤمن بالحياة، والفنان الذي يتخذ من فنه وإبداعه درعاً واقياً من التحديات القاسية الذي قد تعرقل مسيرته بل سيجد له رئة ثالثة يستطيع من خلالها التعويض عن خساراته لتكون انتصارات لدى أشخاص يعانون ذات المعاناة وهم لا يملكون الفرص المالية لاجتياز مصابهم، وسيلين ديون قامت بالمشاركة في حملات تبرع للمصابين بذات المرض كما حملات توعية لهذا المرض النادر الذي قد يفتك بصاحبه دون أن يدري تشخيصه. سيلين ديون قدمت للرياض لتصافح جمهورها سواء الموجود في المملكة العربية السعودية أو ذلك الذي يتابعها عبر قنوات البث المباشر للحفل الاستثنائي الذي أدّته بروعة وقدرة وجمال، وكما هي استثنائية قدمت حفلاً استثنائياً في العاصمة (الرياض) التي أدهشت العالم أنها عاصمة الثقافة والفن والمبدعين من كل العالم. الكثير من المبدعين والفنانين والشعراء والأدباء قاوموا نكساتهم الصحية بالفن والاستمرار ومقاومة الانكسار، الشاعر الفلسطيني محمود درويش حمل قلبه المريض على كفه وكتب له أجمل القصائد «سيري ببطء يا حياة لكي أراك بكامل النقصان حولي كم نسيتك في خضمًّك باحث عني وعنك قل للغياب تقصتني وأنا حضرت لأكملك»، ثم الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- الذي قال قصيدة حديقة الغروب حين شعر بخنجر الخبيث يغرس نصله في جسده «أما مللت من الأعداء ما برحوا يحاورونك بالكبريت والنار والصحب أين رفاق العمر هل بقيت سوى ثمالة أيام وتذكار بل اكتفيت وأضناني السرى وشكا قلبي العناء ولكن تلك أقداري». الإبداع جرعة مقاومة للمرض، هو تعويذة حياة ونوتة يعزف من خلالها المبدع على قاموس حياته ألحاناً لا تشيخ ولا تموت وتبقى تذكر به، الفن هو العكاز الذي يشكل قدماً ثالثةً، هو صوت لا يخذل صاحبه وهو ذاكرة حياة.