في أحدث مؤشر على عزمه الاستمرار في فرض الرسوم التجارية لحين تحقيق أهدافها، رفض الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانتقادات الموجهة لسياسته الجمركية، قائلاً إن الولاياتالمتحدة تجني يومياً ملياري دولار من الرسوم، وربما يكون هذا التقدير مبالغ فيه، إذ تظهر أرقام وزارة الخزانة اليومية للإيداعات والسحوبات، وهو الحساب التشغيلي الرئيسي للحكومة الفيدرالية، أن ودائع الجمارك وبعض الضرائب الاستهلاكية بلغت في المتوسط نحو 200 مليون دولار يومياً هذا الشهر، وطوال شهر فبراير، وهو آخر شهر كامل متاح، حققت الخزانة حوالي 7.25 مليار دولار من الرسوم الجمركية. استحالة الإعفاءات خلال الفترة الماضية، طلب الكثير من صناع السياسات من ترمب إعادة النظر في التعريفات الجمركية، إلا أن هذه الإعفاءات غير متوقعة في الأمد القريب، ومع اقتراب نحو 70 دولة من الإدارة الأمريكية لإجراء محادثات فإن المناقشات قد تمتد إلى يونيو، وربما يشكل الوجود العسكري الأميركي والمساعدات الخارجية جزءاً من محادثات التجارة، خاصة وأن ترمب أطلق دعوات متكررة لليابان وكوريا الجنوبية لدفع المزيد من الأموال لتغطية تكلفة تمركز القوات الأميركية هناك، وتعتبر كوريا الجنوبية واليابان حليفتان أمنيتان عريقتان للولايات المتحدة، إذ تستضيفان أعدادًا كبيرة من القوات الأمريكية، وهما شريكتان رئيسيتان في الجهود الأمريكية للتصدي لتنامي نفوذ الصين في آسيا وخارجها، كما تتمتعان بفوائض تجارية كبيرة مع واشنطن، لكنهما لم يحظيا باستثناء من رسوم ترمب الجمركية. الأهم من ذلك، هو أن ترمب يعتقد أن الرسوم قادرة على إعادة مجد الصناعة الأمريكية، وتشترك رسوم" يوم التحرير" الجمركية التي أعلنها ترمب في أمر واحد، وهو أنها تُطبق على السلع فقط، ولا تتأثر تجارة الخدمات بين الولاياتالمتحدة وشركائها، وهذا مثال واضح على تركيز ترمب على تجارة السلع، ويعني قرار تطبيق الرسوم الجمركية على أساس كل دولة على حدة، أن القواعد المتعلقة بمصدر المنتج أصبحت الآن ذات أهمية محورية،لأن مخاطر الخطأ كبيرة، فقد هدد ترمب بأن أي شخص يسعى إلى تجنب الرسوم الجمركية عن طريق نقل منشأ المنتج المفترض إلى بلد ذي رسوم جمركية أقل قد يواجه عقوبة بالسجن لمدة عشر سنوات. في البداية، رفض البيت الأبيض تحديد كيفية تحديد مستويات التعريفات الجمركية، لكن يبدو أن معدل كل دولة قد تم تحديده بقسمة عجز الميزان التجاري الأمريكي للسلع مع تلك الدولة على قيمة صادراتها من السلع إلى الولاياتالمتحدة، ثم تقسيمه إلى النصف، مع تحديد 10%كحد أدنى، ومن الناحية الاقتصادية، فإن تركيز ترمب على رسوم السلع، ينطلق من نظرة تقديس واسعة النطاق للتصنيع، وهذه أيضاً نظرة تشترك فيها العديد من الدول، و إحدى النظريات الاقتصادية تؤكد أن التركيز على الصناعة أمر متأصل في الفكر البشري، من خلال تجارب ما قبل التاريخ في إيجاد الغذاء والوقود والمأوى، التي تهيمن على جميع الأنشطة الأخرى. الحنين إلى عصر التصنيع بالنسبة لترمب، فإن هذا التفكير ربما يكون مرتبطا بمزيج من الحنين إلى عصر التصنيع الماضي، والقلق بشأن فقدان الوظائف الجيدة التي توفر مستوى معيشي جيد للعمال ذوي الياقات الزرقاء، وهم جزء أساسي من قاعدته الانتخابية، وإذا كان الحنين إلى الماضي لا يعد أساسًا منطقيًا لصياغة السياسات الاقتصادية، إلا أن دور العواطف في الشؤون الدولية يحظى باهتمام متزايد، وقد وُصف بأنه "تحول عاطفي" حيث تُدرك أهمية العواطف في مجال العلاقات الدولية، ويعتقد ترمب أن العمال ذوي الياقات الزرقاء عانوا في الولاياتالمتحدة على مدى الخمسين عامًا الماضية، وهو من خلال وجوده في البيت الأبيض، سيعيد للعمال الوظائف المفقودة. دفع العديد من العمال ذوي الياقات الزرقاء، مثل موظفي مصنع سيارات جنرال موتورز في ميسوري، ثمنًا باهظًا للعولمة، وتُظهر بيانات الدخل الأسبوعي في الولاياتالمتحدة، حسب المستوى التعليمي، أن أجور غير الحاصلين على شهادة جامعية انخفضت أو ركدت منذ عام 1973تقريبًا، وخاصةً بين الرجال، وهذه هي الفئة التي صوّتت بشكل غير متناسب لترمب، وفي كثير من الأحيان، كانت وظائف قطاع الخدمات، التي سدت الفجوة التي خلفها تراجع قطاع التصنيع، غير مستقرة، وهذا يعني انخفاض الأجور، وضعف الأمان الوظيفي، وغياب التمثيل النقابي، وقلة فرص الترقي الوظيفي، لذا، ليس من المستغرب أن يكون هناك ردفعل عنيف. هل يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء؟ السؤال: هل ستعالج خطة ترمب للرسوم الجمركية هذه المشكلة؟، يراهن ترمب على إعادة التصنيع إلى الولاياتالمتحدة، إلا أن هناك عدة عواقب وتحديات، ففقدان وظائف التصنيع يعود جزئيًا إلى العولمة، التي يسعى ترمب إلى عكس مسارها، بينما تُظهر الأبحاث أن التجارة والعولمة غالبًا ما تكونان كبش فداء أكثر من كونهما قوة دافعة، وهما مسؤولتان عن جزء صغير فقط من فقدان الوظائف، ويُقال عادةً إنه حوالي 10%، والسبب الرئيسي لتراجع قطاع التصنيع هو ارتفاع الإنتاجية، حيث يتطلب الأمر ببساطة عددًا أقل من العمال لإنتاج السلع، وذلك بفضل التزايد المستمر في الأتمتة وما يصاحب ذلك من ارتفاع إنتاجية كل عامل. وإذا أُعيدَ توازن العجز التجاري الأمريكي بأكمله من خلال توسيع الصناعات المحلية، فسيؤدي ذلك إلى زيادة حصة العمالة الصناعية داخل الولاياتالمتحدة بنحو نقطة مئوية واحدة، من حوالي 8% حاليًا إلى 9%، وفقًا لأرقام مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، ولن يُحدث هذا تحولًا جذريًا، وللرسوم الجمركية آثار ذات حدين، فمن المرجح أن تُعيد بعض الصناعات إلى الولاياتالمتحدة، لكن هذا قد يُؤدي إلى نتائج عكسية، فزيادة إنتاج الصلب الأمريكي على سبيل المثال، تُفيد العمال، لكن ارتفاع تكلفة الصلب الأمريكي يُؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات المُصنّعة به، ويشمل ذلك السيارات التي يعشقها ترمب، كما أن انخفاض الأسعار التنافسية يعني انخفاض الصادرات وفقدان الوظائف. تاريخياً، كانت خمسينيات القرن العشرين فترةً فريدة للولايات المتحدة، فبنهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت أميركا قوةً صناعيةً عظمى، تُمثل ثلث صادرات العالم، وتستحوذ على حوالي عُشر وارداته، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الدول الصناعية آنذاك، وقد سحقتها الحرب، وقد استطاعت الولاياتالمتحدة وحدها تجنب ذلك، مما خلق طلبًا هائلًا على الصادرات الأمريكية، إذ لم يكن لدى أي مكان آخر قاعدة صناعية قوية، ولم يكن هذا ليدوم إلى الأبد، والنقطة الأخرى المتعلقة بتلك الفترة التاريخية هي أن النظام الاقتصادي تأثر بالاستعمار، واستغلت القوى الأوروبية نفوذها لمنع بقية العالم من التصنيع، ومع تفكك تلك الإمبراطوريات وتحررها من القيود، بدأت الدول المستقلة حديثًا عمليات التصنيع الخاصة بها، أما بالنسبة للولايات المتحدة اليوم، فإن القول بأن الرسوم الجمركية ستجلب عصرًا ذهبيًا جديدًا للتصنيع هو أمر خاطئ، لأن العالم قد تغير. تحليل: د. خالد رمضان