تشير أرقام 2020 إلى أن الانتحار يمثل السبب الثاني للوفاة في أوساط الشباب الغربي ممن تتراوح أعمارهم ما بين 25 و34 عامًا، وتغيب الأرقام العربية والخليجية لذات الفئة العمرية، لأن الانتحار يشكل حرجًا في هذه المجتمعات، بخلاف أن عناوينه مختلفة، أبرزها؛ الإرهاب والمخدرات والفقر، وكله بفعل ما كرسته ثقافة الثورة الصناعية وأولويات مجتمع الجدارة.. أوضحت الدراسات أن ما يصل إلى 80 % من الناس يشغلون أفكارهم بأمور سلبية، وأن الأشخاص إذا أكملوا 18 عاماً يكونون قد استقبلوا في المتوسط 150 ألف رسالة سلبية، في مقابل 600 رسالة إيجابية، وفي دراسة تعتبر الأكبر من نوعها، في تأثير التفكير الإيجابي على المخ، تم إجراؤها في جامعة بيتسبرغ الأميركية، على 97 ألف امرأة ولمدة ثمانية أعوام، ونشرتها جمعية القلب الأميركية، وجد أن المتفائلات من بينهن يتمتعن بصحة أفضل من المتشائمات، وأنهن أقل إصابة بأمراض القلب بنسبة 9 %، واحتمالية وفاتهن بسبب الأمراض لا تزيد على 14 %، والاكتئاب والتدخين بينهن محدود، ويحصلن على قدر أكبر من التعليم ودخلهن مرتفع.. وللمعلومية المرأة في العادة أكثر تشاؤما من الرجل. زيادة على ذلك، أكدت دراسة نشرت عام 2012 وتناولت 43 شخصاً من المعمرين الذين تجاوزت أعمارهم 100 عام، لمعرفة أسباب طول العمر لديهم، ووجدت أنهم كانوا ينظرون بإيجابية وتفاؤل للحياة، وأنها العامل الأساسي الذي أوصلهم إلى هذه السن، وما سبق لا يعني أن التشاؤم المتوازن غير مطلوب، ولكن بدون تفكير تهويلي سلبي، أو إفراط في التفاؤل، وإنما بما ينسجم مع منطق الأشياء ومع إمكانات الشخص في الواقع. مارتن سيلغمان، الرئيس السابق لجمعية علم النفس الأميركية، تناول فكرة انحياز الشخص للتشاؤم، وفسر ذلك أن الإنسان مخلوق مستقبلي، بمعنى أنه يفكر فيما سيكون، ولا يهتم بلحظته الراهنة، والأصعب أنه يتصرف بناء على الواقع الذي يفترض وجوده في المستقبل، وإذا وضع في ذهنه السيناريو الأسوأ باستمرار، فإنه سيتوقف عن الإيجابية والعمل المنتج معا، لاعتقاده أن تصرفه في حد ذاته، ومهما كان نوعه، سيدخله في سلسة متواصلة من الكوارث والمشاكل، فهو ببساطة يميل إلى السوداوية في تفسير كل شيء أمامه، ويشخصنه وكأنه لا يحدث إلا معه وحده، وهذا التصور غير صحيح، والإشكالية أن التشاؤم طاقة سلبية معدية، وانتقالها من شخص لآخر وارد بدرجة عالية، واللافت أنه ثبت وبالدليل العلمي أن ذاكرة المتشائمين والمتفائلين تعمل بانحياز تفاؤلي في أوقات الكوارث والأزمات، لأنها لا تحتفظ بتفاصيل الماضي مثلما حدث، وإنما تعيد بناءه في الظروف الصعبة، وتبتكر رواية جديدة عنه حتى تجعله أكثر تفاؤلا. التفاؤل المفرط أو استسهال الأمور ربما قاد لنتائج عكسية، ومن الأمثلة؛ ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية في 2007، وعادت فيه لعناوينها أيام الثلاثينات الميلادية، في بداية حكم هتلر لألمانيا، ولاحظت أنها وصفته برجل الأقوال لا الأفعال، ووصمته بالسياسي المهرج وخفيف الوزن، إلا أن الواقع خالف توقعاتها، فأفعال هتلر ذهب ضحيتها 60 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى أن المحرك الأول للازمة المالية العالمية في 2008 هو التفكير الإيجابي، فقد قام ملايين من الناس بإغراق أنفسهم في ديون كارثية، لأنهم تفاءلوا أن المستقبل المالي سيكون أفضل، وهو ما لم يحدث كما نعرف. في المجتمع القديم الذي سبق الثورة الصناعية، لم يكن هناك إلا طبقتان علوية وسفلية، والإنسان فيهما كان بعيدا عن ضغوط المنافسة والطموح، لأن الأدوار كانت موزعة ونهائية، بينما مجتمع الجدارة الحالي، يفتح فرصا لا محدودة للارتقاء الطبقي والمهني، وتكوين الثروة وبناء الأسرة النموذجية، وقد جاء بطبقة متوسطة بين الطبقتين، تعمل كمصعد بينهما، والمهن لم تعد تورث من الآباء للأبناء، وحتى الارتباطات الأسرية أصبحت غير مقيدة بالانتماء الطبقي، وفي 1800 كان هناك شخص واحد متعلم من كل عشرة أشخاص، وارتفع الرقم في 2015 إلى ثمانية من عشرة، وتراجعت وفيات المواليد في أول خمسة أعوام من 43 % في القرن التاسع عشر، إلى 4 % في القرن الواحد والعشرين، ما جعل فرص وشروط الحياة صعبة ومرهقة نسبياً في هذه الأيام، والشاهد أرقام المنتحرين التي ارتفعت، طبقا لعالم الاجتماع إميل دوركهايم، وبمعدل عشرة أضعاف، عند مقارنتها بالمجتمعات القديمة. أرقام 2020 تشير إلى أن الانتحار يمثل السبب الثاني للوفاة، في أوساط الشباب الغربي ممن تتراوح أعمارهم ما بين 25 و34 عامًا، وتغيب الأرقام العربية والخليجية لذات الفئة العمرية، لأن الانتحار يشكل حرجًا في هذه المجتمعات، بخلاف أن عناوينه مختلفة، أبرزها، الإرهاب والمخدرات والفقر، وكله بفعل ما كرسته ثقافة الثورة الصناعية وأولويات مجتمع الجدارة، فكلاهما قام بشيطنة فكرة التشاؤم، ونظر لصاحبها باعتباره كسولا، ويفتقد للطموح، ولا يعمل على تطوير ذاته، ما جعل الفشل بمثابة كابوس لا يمكن التعايش معه.. وفي رأيي، الحل يكون بالتوفيق المتوازن ما بين التشاؤم والتفاؤل، فالعقل إذا نظر للمشهد بواقعية ودون تدخل للرغبات والأمنيات، أصبح أكثر تفاؤلا وثقة في قدرته على تغييره، وعلى تحويل الفشل إلى نجاح وليس العكس، والفرص موجودة لكل أحد، وبالأخص في المملكة، ولكنها تحتاج لمن يستثمرها بعقلانية واتزان، وبدون توقعات مبالغ فيها.