أسال الله سبحانه وتعالى أن يرحمك أبا خالد أيها الخالد في الذاكرة التشريعية السعودية معالي أستاذنا الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، رحمك الله أبا خالد فقد ملكت قلب كل من عرفك ومن تعامل معك. في نهاية شهر رمضان عام 1446 ه، الموافق السابع والعشرين من مارس 2025، عن عمر يناهز 88 عامًا. بلغنا نبأه فعم صمت رهيب، وفقد كبير، تسمع فيه همس القلوب بدعوات صادقة رحمك الله أبا خالد، تجول في ذلك الصمت الخواطر بذكراك حبا واحتراما وتقديرا، وتتحرك الذاكرة في مآثرك العظيمة. أخلاق عالية، وقيم راسخة، وذكاء متقد، ووطنية صادقة، بل إنني كنت أرى فيك تنتهج سنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والتعامل والعدل. لقد عرفت معالي أستاذنا الدكتور مطلب النفيسة أستاذا في مادة نظام مجلس الوزراء «القانون الدستوري» في قسم القانون جامعة الملك سعود، فتعلمنا منه أسلوبا متقدما في التعليم القانوني، حيث يشجع الطلاب على إبداء الرأي، ثم المحاورة والنقاش، وبعد ذلك استخلاص الآراء مع التعليل وبيان المبررات والمستندات، تعلمنا منه كيف ننظر إلى المواد القانونية وكيف توزن الصياغة القانونية، وكيف تحترم القواعد الشرعية. ثم بعد أن التحقت بالعمل في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء عام 1407 ه فقد قال معاليه لي: «أنت من المرغوب فيهم»، وقد كان معاليه رئيسا لهيئة الخبراء آنذاك، فكانت فرصة لي لمزيد من التعلم والتتلمذ في مدرسة مطلب النفيسة القانونية والتشريعية، فقد لازمته -رحمه الله- عشرة أعوام كان يرأس الهيئة العامة للخبراء والمستشارين من الساعة الثامنة صباحا وحتى الثانية عشر ظهرا يوميا، وكان يناقش جميع معاملات هيئة الخبراء بأسلوب العمل الجماعي واستطلاع الآراء حتى تستوي الدراسة القانونية، وكان مطلب النفيسة يدرك آنذاك أننا في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء المرجع النهائي للأنظمة والمراسيم الملكية وقرارات مجلس الوزراء قبل وجود مجلس الشورى في تشكيله الحالي؛ فكان له دور بارز في تطوير الأنظمة والتشريعات، مستندًا إلى رؤية متزنة ومبادئ راسخة. بل كان -رحمه الله- رجل دولة من الطراز الرفيع، يدرك أهمية التوازن بين الثوابت والتحديث، ويؤمن بأن القانون ليس مجرد نصوص، بل هو عدل وإنصاف يُحققان الاستقرار والتنمية، تعلمنا من معاليه كيف يمكن فهم النصوص القانونية من مجموع الأنظمة، وليس النظر المحدود في مادة أو مواد مستقلة، وكيف توجد المخارج القانونية دون الحاجة إلى تعديل الأنظمة، وأتذكر في هذا الصدد قول الإمام سفيان الثوري -رحمه الله-: (إنَّما العلمُ عندنا الرُّخصة مِن ثِقَة، فأما التشديدُ فيُحسِنُه كُلُّ أحدٍ) [آداب الفتوى للنووي، ص: 37]. وأيضًا قول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: (المفتي البالِغُ ذِروة الدَّرَجة هو الذي يحمِلُ النَّاسَ على المعهود الوَسَط فيما يليق بالجمهورِ، فلا يذهَبُ بهم مَذهَبَ الشِّدَّة، ولا يميلُ إلى طَرَف الانحلال، والدليلُ على صحة هذا أنَّه الصِّراط المستقيم الذي جاءت به الشَّريعة؛ فإنه قد مَرَّ أن مقصَدَ الشَّارع من المكَلَّف الحَملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريطٍ، فإذا خرج عن ذلك في المستَفْتين خرج عن قَصْدِ الشارع؛ ولذلك كان ما خرج عن المذهَبِ الوَسَطِ مذمومًا عند العلماء الرَّاسخين) الموافقات: 4/285. تعلمنا من مطلب العدل فكان لا يحابي أحدا دون أحد وإنما يعمل العدل واختيار الاكفء، لا يمكن أن تخترق عمقه بمجرد أن تكون حوله كما هو حال الكثيرين، بل هو من يقرر الأكفأ من منطلقات قناعته الراسخة، وكأنه قد استعد للقاء ربه فأضاء دربه ونظف ملفه. أخي القارئ الكريم وأختي القارئة الكريمة إنه من الصعوبة أن يكتب كاتب عن مآثر معالي الدكتور مطلب النفيسة، لأنه رجل فذ ذو خلق رفيع، وقانوني عبقري ورجل دول من الطراز الأول، لكن في هذه الأسطر أحاول أعبر عن بعض من مآثره -رحمه الله- رحمة واسعة، لعلها تكون من الباقيات الصالحات لمعاليه وذخرا له عند واليه سبحانه وتعالى. أقول بإيجاز بما يسمح به هذا المقال عن جزء من أخلاقه الرفيعة، وقيمه الراسخة وعدالته، ثم شيئا من مزايا العمل القانوني في مدرسة مطلب النفيسة لعل تلاميذه، أومن لم يعاصروه يستفيدون منها نفعا للوطن ورقيا بمهنة القانون والتشريع. لقد عملت مع معالي أستاذي مطلب النفيسة عشر أعوام في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء ثم أعوام أخر معه في اللجنة العامة لمجلس الوزراء، لم أرَ فيها مطلب النفيسة منفعلا أبدا رغم زحمة الأعمال وثقل الملفات التي يحملها، فعمله معنا في هيئة الخبراء لم يكن إلا جزءا من مجموعة الأعمال التي توكل إليه، ثم لا بد أن نقف مع النفس الطويل الذي يتحلى به مطلب في دراسة المعاملات القانونية، كنا في الهيئة العامة للخبراء والمستشارين لا يفصح معاليه عن رأيه حتى يسمع من الجميع آراءهم، وكان -رحمه الله- مدرسة مميزة في بناء شخصية المستشار القانونية، كان الدكتور مطلب يحترم الآراء المختلفة، ويؤمن بأن الاختلاف لا يعني الخلاف، بل هو وسيلة للوصول إلى القرار الأمثل. كان يجيد فن الإقناع، لا من باب الجدل، ولكن بالحجة والمنطق، وبأسلوبه الهادئ العميق، الذي يجعلك تنصت له بإعجاب واحترام. وترى فيه أهل الاختصاص شواطئ علمه الضخمة المتلاطمة، والتي لا تسمع أنت منها إلا صوتها الهادي على طرف الشاطئ الجميل، ما أجمل وأروع العمل والتعامل معك أباخالد، لأنه يخاطبك لا من منطلق أنه الرئيس وأنت المرؤوس، بل أوجد -رحمه الله- مساحة واسعة لإبداء الرأي لقناعته الراسخة في كيفية صنع المستشار أولا لأنه الركيزة التي ستعتمد عليها الدراسات والآراء القانونية فيما بعد، ولذلك عرف في ذلك الوقت تميز المستشارين الذين تخرجوا من مدرسة مطلب القانونية بسعة نظرهم وقدرتهم على تحمل الآراء المخالفة ومناقشتها بصدر رحب، وصعوبة التأثير عليهم، في العموم الأغلب، بل إنه صنع مستشارين لا مجرد كتبه أو سكرتارية، ولك أخي القارئ أن تقارن بمن حولك لترى الفرق بين مدرسة مطلب النفيسة القانونية وغيرها، فستجد البون واسعا والمدى بعيدا لا يدرك! وفي اللجنة العامة لمجلس الوزراء، كما أشرت عملت مع معاليه أعوام كان رجل دولة من الطراز الأول، كان يقول لي -رحمه الله- ونحن في إعداد معاملات اللجنة العامة لمجلس الوزراء: يا محمد اقرأ المعاملات كاملة مثلي فإننا بحاجة أن نقرأ أنت وأنا كل ما في المعاملات! هذا جانب على إحاطته بجميع التفاصيل القانونية، فمعاليه يدرك أهمية ووزن رأيه القانوني فكان لا يبدي رأيه الا متثبتا واثقا محتاطا، وهذا النهج هو ما يجب أن يكون عليه أي مستشار مؤتمن في رأيه أمام وطنه وولاة أمره. ومن مآثر معالي الدكتور مطلب العجيبة والتي قد تخفى على كثيرين في وفائه لمعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر -رحمه الله- كان عبدالعزيز الخويطر رئيس اللجنة العامة لمجلس الوزراء ومطلب النفيسه نائب رئيس اللجنة العامة ورئيس اللجنة الفرعية، وفي آخر أيام عبدالعزيز الخويطر مرض ولم يعد يتمكن من حضور اجتماعات اللجنة العامة لمجلس الوزراء، وكانت اجتماعات اللجنة الفرعية تسبق اجتماع اللجنة العامة بوقت قصير فكان مطلب النفيسة يرأس اللجنة الفرعية من كرسي رئيس اللجنة، ثم إذا انتهت اجتماعات اللجنة الفرعية وبدأ اجتماع اللجنة العامة قام مطلب من كرسي الرئاسة وجلس في كرسي نائب رئيس اللجنة، وكان -رحمه الله- إذا طلب منه البقاء يقول هذا كرسي الدكتور عبدالعزيز الخويطر -رحمهما الله-. كنت معهم في اللجنة العامة آنذاك وكنت أنظر إلى ذلك الوفاء العجيب بين أولئك الكبار -رحمهم الله جميعا-. هذه كلمات سريعة وهي بلا شك فيض من غيض جرى بها القلم حزنا ووفاء وتذكرا لهذا الرجل الكبير، فمطلب النفيسة حري أن تكتب في مآثره كتب في الأخلاق والقانون والاتزان والوطنية الصادقة، فبرحيله، فقد الوطن أحد رجالاته الأوفياء، الذين لم يكونوا يسعون للبروز الإعلامي، بل كانوا يعملون في صمت من أجل بناء دولة حديثة تستند إلى أسس راسخة من العدل والحكمة والرؤية الاستراتيجية. رحمك الله أبا خالد وأسكنك فسيح جناته وجزاك الله عنا خيرا. إنا لله وإنا إليه راجعون. ويا حبر سطر على الأوراق تذكرة فالعمر يبلى ويبقى بعد الذكر. * عضو مجلس الشورى الخبير القانوني في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء المشرف العام المكلف على أعمال اللجنة العامة لمجلس الوزراء سابقا د. محمد بن عبد العزيز الجرباء*