لم يخطر ببال أحد أن عشبة وضيعة المنظر تُدعى "سذاب المعزة"، كانت تُزرع في أرياف أوروبا لعلاج عِلل مبهمة، ستقود لاحقاً إلى ابتكار دواء ناجع، يُعدّ اليوم من أعمدة علاج داء العصر السكري: "الميتفورمين". قديماً لاحظ الفلاحون والمعالجون الشعبيون أن تلكم النبتة تُخفف من غزارة البول والعطش الشديد، وهما العرضان الملازمان لما يعرف اليوم بمرض السكري! غير أن التفسير الدوائي لتلك الملاحظات بقي غامضاً حتى بداية العشرينات، حينما نجح "أميل فيرنر و"جميس كمنتج" في تخليق "ثنائي ميثيل غوانيدين، الذي لوحظ لاحقاً خفضه لمستوى السُكر في الأرانب، وأنه قد يكون أقوى نظائر "البيغوانيد" التي تؤدي إلى خفض مستويات السكر في دم الإنسان، بيد أن الاهتمام كان من نصيب أشقائه الآخرين، الذين كان لديهم مخاطر مرتفعة، كونها قد تؤدي إلى "الحماض اللبني"، ناهيك عن اكتشاف الأنسولين، فأُهملت نتائجه ولم يُعِرها المجتمع الطبي الاهتمام. مرّت العقود، حتى جاءت أربعينيات القرن العشرين، فعاد الاهتمام بمشتقات الغوانيدينات من جديد، ولكن بهدف البحث عن مضادات الملاريا، ليثبت الطبيب الفلبيني "أوزيبيو جارسيا" سريرياً فائدته في الشفاء من الأنفلونزا، ويلاحظ تخفيض مستوى السكر في الدم! وهنا بزغ نجم الميتفورمين، الأكثر فعالية والأقل سميّة، وكان الطبيب الفرنسي "جان ستيرن" أول من اختبره سريرياً في باريس عام 1957، ومنحه اسم "غلوكوفاج"، أي "آكل السُكر"! ورغم نجاعة الميتفورمين، إلا أنه ظل حبيس القارة الأوروبية لعقود، إذ لم يُعتمد في هيئة الغذاء والدواء الأمريكية حتى عام 1995، بسبب التخوف من آثاره الجانبية، كالحُماض اللبني، غير أن الدراسات لاحقاً كشفت أنه لا يكتفي بخفض مستوى الجلوكوز، بل يُسهم في ضبط الوزن، وتخفيض مقاومة الإنسولين، مما يساعد على تنظيم الدورة الشهرية للنساء وتحفيز الإباضة، وإمكانية معالجة متلازمة تكيّس المبايض، وقد يكون له أثر وقائي ضد بعض الأورام، مثل القولون والثدي والبنكرياس، ولكن ذلك لم يثبت حتى الآن. واليوم بعد ستين عاماً من ظهور أقراص "الميتفورمين" الفموية، أضحى خط العلاج الأول للنمط الثاني من مرض السكري، وليحتل المركز الثاني في قائمة الأدوية الموصوفة حول العالم بنحو 86 مليون وصفة سنوياً، ومئة وخمسين مليون شخص يتناوله يومياً حول العالم. حكاية "آكل السُكر" ليست مجرد قصة دواءٍ مكتشف، بل مثالٌ على أن الدواء الناجع قد يبعث من عشبة مهملة حولنا، ولو بعد حين.