يتساءل الكثير من الكتاب والمهمومين بالوعي الثقافي والمعرفي عن شح وندرة المواضيع التي يريد أن يختارها لتكون عنواناً لطرح جديد، وهذا بحد ذاته شعور مقدر يُدّرج صاحبه ضمن دائرة الهم الاجتماعي والوطني والمعرفي المتعدي نحو الآخرين لكونه يعيش واقع المسؤولية تجاه مجتمعه وأمته، وكذلك شعوره بأنه يجابه وطأة ضمير حي يقظ يكاد إلصاق الذنب به، وهذا الشعور تتجلى فيه الرقابة الذاتية نحو تسنم الدور وفاعلية الذات بعطاء يستحق حالة الهم المواتية، الأمر الذي يدفع الجميع نحو هذه الحيرة في اختيار المواضيع، ولاشك أن الكتابة تتطلب حس فاطن ومستوى ثقافياً ومعرفياً قادراً على التقاط المواضيع بوعي من مسرح الحياة على أن يتناولها بحرفية عالية لتوظّف في السياق التي تندرج فيه لكي تصل رسالتها النورانية وتؤتي أكلها ولو بعد حين، فالوجود يعج بالمعارف وعلينا أن نشظي رؤيتنا تجاه الأشياء ونجزئ الموجودات ونفككها لتصل حقائقها إلينا ومن ثم سوف نخرج بحصيلة معرفية ونكون قادرين على توظيف الأشياء حسب سياقها، وهذا التشظي يلتقي فيه بعد النظر لرؤيتنا مع فطنة تذاهنية تصل بنا إلى جوهر الأشياء وحقيقتها لنرى المعنى ومعنى المعنى، ومن ثم سوف نكون قادرين على الكتابة ليس لنوصل صوتاً فحسب بل نوصل معه معنى ودلالة، فالكتابة قادرة على حمل المعاني وكذا تتسع لكل الواقع والوقائع والأحداث، لأن الكتابة بالضرورة أنها تستبطن كامل شروط المرئي واللامرئي من خلال نقل المشاهدات في المرئي وكذا اللامرئي من خلال نقل الأحاسيس والمشاعر العميقة والصور المتوارية وما يغيب ويختلف عنا في ثقافات الآخر المختلف بسياقها الاجتماعي والتاريخي، ويأتي توظيف الكتابة كزاد ثقافي من خلال لفظ جميل موحٍ يفضي بنا إلى معرفة تستقر معها النفس وترتاح لها مشاعرنا وتطرب، ونعيش معها كل أبعاد الماضي والحاضر وحتى المستقبل، فالكتابة تمثل مرتكزاً ضوئياً للمعرفة لعالم يتسع لكل العلوم والمعارف، ومن يدقق النظر ويفطن لكل الأشياء والموجودات حتماً سيتشظى هذا الوجود بالمعارف وبالتالي نكون قادرين على نقل الرسالة من خلال التدوين والكتابة، الأهم في واقعه أن لا تجعل اللحظة تنفلت منك وتظل هاربة بالوقت أو تعتسفها دون أن يستقر في ذهنك تداعيات هذا الوجود بكل أبعاده وملامحه من خلال مداولة بعده الثالث والزوايا المتوارية فيه، واستتباعاً لذلك علينا أن نقيم علاقة حميمية مع كل شيء وأن نتصادق مع هذا الوجود ونقترب من واقعنا ودوحته المدهشة التي تتزاحم فيها المواضيع ليستدعيها الكاتب لتوظيفها في طرح جديد لتشكيل وعي مختلف معنون بروح المكان ودلالة المعنى وحسن اللفظ لتستحق أن تكون ناطقاً رسمياً للحياة ومعبراً عن الوجود، وهنا تبرز نظرية التلقي وحالة الاستجابة منك ككاتب تعيش واقع المجتمع وتعيش أبعاد هذا الوجود وسيكون لك حضور مختلف عن غيرك، وخلاف هذه الاستدعاءات وفرضية تشظي الأشياء حتماً تجعل نفسك خارج المشهد الثقافي بخطيئة وعيك وخارج فلك تواردات المعرفة بوضع المسافة الفاصلة بينك وبين الأشياء، وبفقد البصر والبصيرة، لتغرد بصوت خافت وحيداً خارج السرب.. وإلى لقاء