«إن المملكة تبرز الآن كجهة فاعلة حاسمة في المشهد الجيوسياسي المتغير، وقد عكس نهجها في العلاقات الدولية أهمية التعامل مع التحديات من خلال الحوار، مدركة أن التواصل الفعال حتى مع الخصوم يعد عنصرًا أساسيًا وأن السياسة هي فن الممكن» واقع جديد يتشكل الآن إقليمياً وعالمياً في ضوء التحولات الجذرية التي يجريها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ملفات السياسة الخارجية الأميركية، ومن بينها ملف الحرب الروسية الأوكرانية، وإعلان ترمب أنه سيلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرياض بمشاركة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، للتباحث واتخاذ خطوات عملية تُمهد الطريق لإنهاء هذه الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات، إضافةً إلى استعادة التمثيل الدبلوماسي الكامل بين أميركا وروسيا واستكشاف مجالات جديدة للتعاون الاقتصادي بين البلدين. هذا الإعلان من ترمب لا يعكس فقط انقلاباً جوهرياً على سياسة إدارة بايدن السابقة التي اتخذت موقفاً متشدداً من روسيا وفرضت عقوبات صارمة على الاقتصاد الروسي بقدر ما يعكس في الوقت ذاته دور الدبلوماسية السعودية وكيف أصبحت مكانة المملكة ونفوذها الحالي على الصعيدين الإقليمي والعالمي، عطفاً على ثقلها السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية والثقة بها من قبل القوى العالمية، إذ باتت المملكة تشكل عنصراً رئيساً في إدارة كبرى الملفات، ما بين الملف الإقليمي الأهم والذي تمثله القضية الفلسطينية وجهود التصدي لمحاولات تهجير أهل غزة ثم الضفة لاحقاً وتفريغ القضية الفلسطينية من أي مضمون حقيقي لها، وكذلك ملف الحرب الروسية - الأوكرانية والتي تعد الشغل الشاغل للولايات المتحدة ودول أوروبا قاطبة، فضلاً عن ملفات أخرى لا تقل أهمية عن هذين الملفين كان للمملكة الدور البارز بها كالملف السوري ونظيره اللبناني. ولعل أبرز ما ميز على الدوام الدبلوماسية السعودية ومكّن لها لأداء هذا الدور الفعال هو ثباتها على الأعراف الدولية والتفاعل مع المجتمع الدولي وتنوع علاقاتها واحتفاظها بمسافات متوازنة مع الدول الكبرى مع تحفّظها على ما يتعارض مع قيمنا وديننا، وإن تعرضت لضغوطات شتى جراء مواقفها، وجميعنا يذكر كيف حاول بايدن في بداية فترته الرئاسية جعل المملكة دولة "منبوذة" قبل أن يأتي بنفسه زائراً للرياض في اعتراف صريح بمكانة ونفوذ المملكة الذي لا يمكن تجاهله، وهذا ما جعل منها وسيطاً قادراً على صنع السلام والاستقرار العالمي وطرفاً مقبولاً من الجميع وموضع ترحيب كبير من مختلف الأطراف في استضافتها للمحادثات بين الولاياتالمتحدةوروسيا لإنهاء الحرب بين الروس والأوكرانيين، ولعل ذلك حصاد الحياد الإيجابي للمملكة والامتناع عن الانحياز إلى أي طرف في هذه الحرب، وهو ما سمح لها بلعب دور الوسيط سابقاً في تبادل الأسرى بين روسياوأوكرانيا، والآن بالفعل انتهت مؤخرا في الرياض أولى اللقاءات بين مسؤولين أمريكيين وروس أجروا محادثات رفيعة المستوى حول أوكرانيا. وفي اعتقادي أن الحرب الروسية الأوكرانية باتت الآن حرباً عبثية لا رابح فيها وتمثل عبئاً على الجميع، وأضحت الخسائر المتبادلة من الطرفين وداعميهم تفوق الاحتمال، وهو ما تفطّن إليه الرئيس ترمب، معلناً توقف الولاياتالمتحدة عن دعم هذه الحرب بعد إنفاق الأميركيين مئات المليارات عليها ووصفه الرئيس الأوكراني بالديكتاتور الذي يتهرب من استحقاق الانتخابات الرئاسية عبر إطالة الحرب كما وصف الجيش الأوكراني بالفاسد، وصرح كذلك في مقابلة إذاعية الجمعة الماضية بأن أوكرانيا دُمرت ولم تعد تملك أية أوراق وأن شكوى زيلينسكي وغضبه لعدم حضور اجتماع الرياض غير مبرر، كونه كان منخرطاً في اجتماعات لثلاث سنوات ولم يحقق أي شيء خلالها. واللافت أن تصريحات ترمب وإن تضمنت تحاملاً واضحاً على الجانب الأوكراني، إلا أن ذلك لا ينفي انخداع أوكرانيا وانجرارها للاستمرار في لعب دور المنافح عن القارة الأوروبية وقد قادتها لهذا الفخ الإدارة الأميركية السابقة ووعدتها بالدعم اللامحدود واستقبلت زيلينسكي رسمياً استقبال الفاتحين وسط احتفاء كبير من الإعلام الأميركي الذي صوره بالبطل المناضل، وكل ذلك كان على حساب أرواح جنود ومواطني أوكرانيا وتشريد الملايين من أبنائها وتدمير البنية التحتية للبلد، فيما لم تحظ بأيٍّ من طموحاتها التي كانت تمني النفس بها، فلا هي انضمت لحلف شمال الأطلسي ولا الدول الأوروبية وافقت على ضمها إلى الاتحاد الاوروبي وتأجل هذا الطلب لأجل غير مسمى، والأدهى عدم محافظتها على سلامة أراضيها بعدما سيطر الروس للآن على قرابة خُمس الأراضي الاوكرانية منذ 2014 إلى الآن بالاستيلاء على جزيرة القرم وأجزاء من دونباس (دونيتسك ولوغانسك) ومناطق في زاباروجيا وخيرسون، فيما أشار وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث الأسبوع الماضي في مؤتمر ميونيخ للأمن إلى أن على أوكرانيا أن تتخلى عن آمالها في استعادة كل أراضيها من روسيا، وأن عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي غير واقعية. وفي المقابل لم تكن خسائر الروس كذلك بالهينة، سواء من هيبة جيشها وسلاحها ومقتل الآلاف من جنودها أو اقتصادها أو انكشافها استراتيجياً وانكفائها وفقدانها قوتها وسيطرتها سواء بسورية أو ليبيا أو أفريقيا، وحتى المفاوضات الجارية حاليًا بينها وبين ترمب والتي قد تميل بالكفة لصالحها الآن على حساب أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين بأكملهم لن تكتمل دون تضحية منها، حيث نشرت (رويترز) أن روسيا قد تتنازل عن أصول مجمدة لها بنحو 300 مليار دولار ضمن تسوية للحرب للمساهمة في إعادة إعمار أوكرانيا، وكالعادة كان الرابح الأكبر هو الولاياتالمتحدة التي تتفاوض الآن مع أوكرانيا للحصول على النصيب الأكبر من ثرواتها المعدنية بما يعادل 500 مليار دولار كما طلب ترمب. ولعل الصدمة التي تلقاها الأوكرانيون وحلفاؤهم الأوروبيون بعدم دعوتهم وتحييدهم حتى الآن عن أي دور في المفاوضات الأميركية مع الروس أو حتى طلب رأيهم هي ما دعت القادة الأوروبيين إلى إقامة قمة طارئة تم انعقادها في باريس قبل أكثر من أسبوع لمناقشة كيف يمكنهم دعم الجيش الأوكراني بعد رفع الولاياتالمتحدة يدها، غير أن هذه القمة بائت بالفشل بعدما رفعت الصحافة الغربية سقف التوقعات لما سينتج عن القمة، قبل أن يتبين للجميع أن أوروبا الآن أعجز من أن تخرج عن الفلك الأميركي أو تملك قرارها ما لم تُجر تحولات جذرية لتعزيز قدراتها العسكرية، وكان الخوف من ترمب وقراراته العاصفة والمفاجئة سيد الموقف، حيث كانت أقصى أمنيات المستشار الألماني أولاف شولتز في تصريحه بعد القمة بأن تتقاسم أميركا معهم المسؤوليات في أوكرانيا، فيما سارع ماكرون إلى الاتصال بترمب عقب القمة رغم انتقاد ترمب الشديد لفرنسا وبقية الدول الأوروبية واتهامه لها بعدم السعي لمحاولة التوصل لاتفاق يوقف هذه الحرب. أوكرانيا أضاعت فرصة وقام ترمب في تصريحاته الأخيرة بنسف السردية الغربية تمامًا، بإشارته إلى أن أوكرانيا هي من بدأت الحرب وأنها التي أصرت على استمرارها ثلاث سنوات وأن عدد القتلى الأوكرانيين يصل إلى الآلاف يوميًا وتخطى المليون حتى الآن، وأضاف أن أوكرانيا ضيعت فرصة اتفاق في أول الحرب كان سيحافظ على أراضيها، ورغم تقديري الشخصي لما تحمله هذه التصريحات من مبالغة وتشفٍ من ترمب في إدارة بايدن، كون روسيا هي من بدأت الحرب فعلياً وانتهكت السيادة الأوكرانية إلا أنها تتماشى مع موقف ترمب المتحفظ على استمرار هذه الحرب واعتماد أوكرانيا والغرب على الأميركيين في الدفاع عن أنفسهم ومصالحهم، فكانت المفاوضات الجارية الآن بين أميركا والروس بإشراك المملكة العربية السعودية عاكسةً للرؤية الحالية لترمب ونظرته للغرب المستغل لبلاده وتشكُّل قوى جديدة قادرة على إحداث التوازن المطلوب عالمياً بعيداً عن لغة القيم المشتركة والالتزامات التاريخية. المملكة لاعب رئيس ودون مواربة، فترمب رجل صفقات وهو يحاول التقرب إلى المملكة ويرى فيها حليفاً رئيساً، واختياره لها لاستضافة القمة المرتقبة بينه وبين بوتين وقبلها المحادثات الأميركية الروسية يدل على حرصه على استدامة العلاقات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية مع المملكة ورغبته في جذب وإبرام صفقات استثمارية مع الرياض ستفيد البلدين، كما أن إعلانه هذا يمثل اعترافاً منه بدورها الهام حالياً في تشكيل العلاقات الدولية وكونها لاعباً رئيسياً على المسرح العالمي، بما تملكه من مقومات اقتصادية وثقل سياسي، وغايته الكبرى التي لا يخفيها هو التوصل لاتفاق سلام و"تطبيع" بينها وبين دولة الكيان الإسرائيلي، والمملكة تدرك ذلك وتضع شروطها في مقابل ذلك، خاصةً بعدما رأى ترمب كيف شكلت المملكة سياستها الخاصة ووضعت مصلحتها ومصلحة مواطنيها أولاً في عهد الإدارة السابقة بقيادة بايدن وعقدت تحالفات مع منافسي الولاياتالمتحدة التقليديين سواء الصين أو روسيا. إن المملكة تبرز الآن كجهة فاعلة حاسمة في المشهد الجيوسياسي المتغير، وقد عكس نهجها في العلاقات الدولية أهمية التعامل مع التحديات من خلال الحوار، مدركة أن التواصل الفعال حتى مع الخصوم يعد عنصرًا أساسيًا وأن السياسة هي فن الممكن، عبر رؤية تدعو إلى بناء الجسور بدلاً من الجدران، وفي ظل قيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يُعد من القلائل ضمن القادة العالميين الذين يتمتعون بعلاقات وثيقة مع كل من ترمب وبوتين وزيلينسكي، أعادت المملكة تعريف دورها على الساحة العالمية من خلال استثمارات استراتيجية ومبادرات طموحة، ما جعلها شريكًا موثوقًا فيه من الجميع، وكان التركيز هنا ليس فقط على تجنب الأزمات بل على تعزيز العلاقات، كما يتضح من رؤية السعودية 2030. إن الدبلوماسية الفعالة تعتمد على التفاوض، لتوضيح أي سوء فهم والتخفيف من مخاطر الصراع، وهذا النهج لا يرمي إلى إعادة تعيين السياسة الخارجية فحسب، بل يسعى إلى تعزيز مناقشات بناءة تؤدي إلى حلول مستدامة، وعلى هذا النهج تتوجّه الإصلاحات الداخلية للمملكة، إلى جانب دورها النشط على الصعيد الدولي، نحو تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، وفي ظل الصراع الروسي الأوكراني المستمر، يصبح فهم التعقيدات التي تشكل العلاقات العالمية أمرًا ضروريًا، وتظل الدعوة إلى الحلول الدبلوماسية أولوية لضمان السلام. فرصة حيوية وأخيراً فإنه مع عدم تقديم كل من موسكو وكييف خطةً ومساراً واضحاً لكيفية إنهاء هذا الصراع، فإن القمة المقبلة التي ستجمع بين الرئيس ترمب والرئيس بوتين في ضيافة وبمشاركة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والتي لم يتحدد موعدها بعدُ سوف تمثل فرصة حيوية للجميع لوقف نزيف الخسائر والعمل نحو تحقيق سلام عادل ودائم تستفيد منه الأجيال القادمة، كما تمثل تأكيدًا على الواقع الجديد للمملكة ومكانتها ودورها في الدبلوماسية العالمية. * أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية في جامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولاياتالمتحدة تحليل - د. تركي فيصل الرشيد *