«الناتو» السيناريو المقبل.. البقاء أو الانهيار منذ أن أسست الولاياتالمتحدة الأميركية حلف شمال الأطلسي في عام 1949، أصبح الأميركيون الدعامة الأساسية لحلف الناتو وصمام الأمان لأوروبا في مواجهة المد الشيوعي، نظرًا لنقص الموارد لدى أوروبا، لا سيما المالية والمادية والصناعية. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ركزت الجهود على تعبئة أوروبا لإعادة الإعمار والتحديث في إطار ما أطلق عليه مشروع مارشال. وتعتبر الولاياتالمتحدة الأميركية دولة محورية، في حلف شمال الأطلسي، وهي أكبر قوة عسكرية في الحلف وتساهم بنحو 70 % من الإنفاق الدفاعي. تسعى الولاياتالمتحدة، من خلال الناتو، إلى تعزيز الأمن الجماعي للدول الأعضاء، والتصدي للتهديدات العالمية، وتعزيز التعاون العسكري والسياسي بين الدول الأعضاء. وبعد تصريحات ترمب في بداية تسلمه الرئاسة وعودته إلى البيت الأبيض، كشفت عن تحديات كبيرة لمستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، نظرًا لتوجهاته السياسية تجاه الحلف، التي تميزت بالانتقاد والوعيد والشكوك حول الالتزامات الأميركية في أوروبا. وعلى عكس الرئيس السابق بايدن، الذي يرى في الناتو جزءًا أساسيًا من الدور العالمي للولايات المتحدة وعنصرًا جوهريًا لأمنها وازدهارها، يعتبر ترمب أن حلف الناتو مثّل عبئًا على الولاياتالمتحدة لعقود وصفقة غير مربحة، فهو يرى أن واشنطن دعمت أمن حلفاء أثرياء دون أن تحصل على الكثير في المقابل. وتحول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، مرة أخرى، إلى موضوع جدل جيوسياسي، بعد أن أعرب الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن انتقاداته لدول الحلف التي لا تلتزم بدفع ما عليها من استحقاقات مالية، بل وتهديده بتشجيع روسيا على مهاجمتها. وعبر تحليل معمق يجمع بين الاستعراض التاريخي والاستشراف المستقبلي، يطرح الأكاديمي أستاذ العلاقات الدولية محمد بوبوش، تساؤلات حول قدرة الناتو على التكيف مع المتغيرات السياسية والجيوسياسية في ظل تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب. كما يبرز أهمية تعزيز استقلالية الدفاع الأوروبي لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة، خاصة مع تحول مسار الدعم الأميركي التقليدي للناتو تحت قيادة ترمب، ما قد يعيد صياغة النظام الأمني العالمي من جديد. عام 2017 في عام 2017، وقبل أن يتولى منصب الرئاسة في الولاياتالمتحدة، وصف دونالد ترمب حلف الناتو بأنه "عفا عليه الزمن"، مبررًا ذلك بعدم تصديه للإرهاب، وموجّهًا انتقادات لدوله لعدم تحملها نصيبها العادل من تمويل الدفاع المشترك. بعد ذلك بعامين، زاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الشكوك حول مستقبل الحلف، بتصريحه أن الناتو في حالة "موت دماغي". لكن مع بدء الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير 2022، بدا وكأن الحلف استعاد عافيته، فقد عاد "العدو الأصلي" ليمنح الناتو فرصة للتوحد مجددًا حول هدف مشترك. العلاج بالصدمة ترمب طالب عدة مرات الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 2 % من الناتج المحلي الإجمالي، وألمح إلى أن الولاياتالمتحدة قد تقلل من دعمها إذا لم تفِ الدول الأوروبية بالتزاماتها. عودته قد تؤدي إلى تقليص الدور الأميركي في تمويل ودعم أنشطة الناتو. وتكتسب هذه الدعوة أهمية خاصة في ظل الأزمة الأوكرانية والمخاوف من تقارب روسي-أميركي على حساب كييف وباقي دول القارة العجوز. وقد وصل إنفاق الولاياتالمتحدة الدفاعي إلى رقم قياسي قدره 968 مليار دولار في عام 2024، في حين تُقدر ميزانيات ال30 حليفًا أوروبيًا بالإضافة إلى كندا بنحو 506 مليارات دولار، أي 34 بالمئة من الإجمالي الكلي. وفي نهاية عام 2024، قال ترمب إن الدول الأعضاء في الناتو يجب أن تنفق على الأقل 3 % من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، بدلًا من الإرشادات الحالية التي تحدد النسبة ب2 %. أميركا أولاً يتبنى ترمب نهجًا شعبويًا يتمحور حول شعار "أميركا أولاً"، الذي يطبقه في المجالين الاقتصادي والعسكري. وفيما يتعلق بحلف الناتو، فهو يؤمن بضرورة أن تسدد الدول الأعضاء تكلفة الحماية التي توفرها لها الولاياتالمتحدة. من بين الدول الأكثر قلقًا من مواقفه ألمانيا، إذ لم يكتفِ ترمب بالتشكيك في أهمية الناتو، بل هدد أيضًا بسحب القوات الأميركية المتمركزة على أراضيها. منذ عام 2014، تضغط الولاياتالمتحدة على دول الناتو لزيادة مساهماتها في الإنفاق الدفاعي إلى 2 % من ناتجها المحلي الإجمالي، إلا أن كثيرًا منها لم يلتزم بهذا الهدف حتى الآن. من المحتمل أن يركز ترمب على سياسة "أميركا أولاً"، مما قد يعني تركيزًا أكبر على القضايا الداخلية والأمن القومي الأميركي المباشر. هذا يمكن أن يؤدي إلى إعادة النظر في بعض العمليات العسكرية المشتركة أو الحد من الالتزام الأميركي بالعمليات الدفاعية خارج الحدود. مبدأ الدفاع الجماعي قد يسعى ترمب لإعادة التفاوض على بنود العضوية أو المشاركة، خاصة تلك المتعلقة بمبدأ الدفاع الجماعي (المادة 5 من معاهدة الناتو). مثل هذا التوجه قد يضعف تماسك الحلف ويؤثر على استراتيجية الردع المشترك. وقد سبق أن وصف كل من الرئيس باراك أوباما ودونالد ترمب أعضاء الناتو الأوروبيين ب"الراكبين المجانيين" (Free Riders)، كناية عن كونهم يستفيدون من الموارد أو المنافع العامة أو الخدمات دون دفع المقابل، وتساءلوا عن جدوى عضويتهم. علاوة على ذلك، أعلن الرئيس ترمب أن حلف الناتو "عفا عليه الزمن" خلال اجتماع قمة الناتو عام 2018. العلاقات مع موسكو كان موقف ترمب تجاه روسيا مثيرًا للجدل في فترته الأولى، حيث عبّر عن رغبته في إقامة علاقات أفضل مع موسكو. عودته قد تُترجم إلى سياسات أقل عدائية تجاه روسيا، مما قد يضعف جهود الناتو في ردع التهديدات الروسية، خاصة في دول أوروبا الشرقية. ويُذكر أن ترمب صرح فور إعلان فوزه في الانتخابات بأنه سيتحدث إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أفاد في وقت سابق بأنه تحدث تقريبًا إلى 70 من قادة العالم منذ انتخابه. من التحديات البارزة التي أثيرت مع وصول ترمب إلى السلطة كان الخوف من احتمال تخليه عن دعم أوكرانيا، أو دفعها إلى قبول تسوية مع روسيا قد تكون على حساب مصالح كييف. هذا السيناريو أثار قلق غالبية الدول الأوروبية، وخاصة ألمانياوفرنساوبريطانيا، إلى جانب مخاوفهم من احتمال تشكيك ترمب في المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تلزم جميع أعضائه بالدفاع عن أي دولة في الحلف تتعرض لعدوان خارجي. وبالتالي، يمكن اعتبار "الناتو" من أوائل الخاسرين مع عودة ترمب، إلا إذا استطاع الحلف إقناعه بأن قوته واستمراره ليسا في مصلحة أوروبا فقط، بل يخدمان المصالح الأميركية أيضًا. الخروج من الناتو رغم أن انسحاب الولاياتالمتحدة من الناتو يُعتبر خطوة جذرية، إلا أن ترمب ألمح سابقًا إلى هذا الخيار. رغم القيود التشريعية على الانسحاب من المعاهدات الدولية، إلا أن ترمب استغل ثغرات قانونية. ففي عام 2020، تجاهلت إدارة ترمب المتطلبات القانونية عندما قررت الانسحاب من معاهدة "الأجواء المفتوحة". واستندت الإدارة في ذلك إلى رأي قانوني صادر عن مكتب المستشار القانوني في وزارة العدل، بقيادة ستيفن إنجل، الذي أكد أن سلطة الرئيس في الانسحاب من المعاهدات تنبع من دوره الدستوري باعتباره "الجهاز الوحيد للأمة في علاقاتها الخارجية". منح هذا الرأي القانوني الرئيس سلطة تقديرية واسعة في إدارة الشؤون الخارجية وتنفيذ المعاهدات أو إنهائها دون قيود من الكونغرس على القرارات الدبلوماسية. إذا قرر فعلاً الدفع نحو هذه الخطوة، فسيكون لذلك تأثير مدمر على الحلف، حيث تعتمد قدرات الناتو بشكل كبير على الجيش الأميركي. ويعتقد مسؤولون سابقون في الناتو أنه على الرغم من التهديدات التي وجهها ترمب لحلف شمال الأطلسي، فإنه من غير المرجح أن ينسحب من الحلف بشكل كامل، ولكنه سيواصل الضغط عبر تكتيك "العلاج بالصدمة" لدفع الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها الدفاعي وتعزيز مساهمتها العسكرية. فالولاياتالمتحدة متشابكة بعمق مع التحالف من حيث التخطيط ونشر القوات والبنية التحتية والقواعد. كما أن القواعد الأميركية في أوروبا حيوية لنشر قوات واشنطن في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الأموال الإضافية التي تنفقها الدول الأوروبية على الدفاع تذهب إلى شركات الدفاع الأميركية، مما يخلق آلاف الوظائف ويحقق أرباحًا جيدة في الولاياتالمتحدة. التوترات منذ بداية العقد الثاني من الألفية، بدأت التوترات تتجدد داخل التحالف العسكري. فالتحديات التي تواجه كل دولة عضو تختلف من واحدة إلى أخرى، وأولويات الحلفاء لم تكن دائمًا متوافقة. لقد انقسم أعضاء الحلف بين من ركزوا بشكل أساسي على تهديد "الدب الروسي"، ومن كانوا منشغلين بمكافحة الإرهاب وهجمات "الذئاب المنفردة" في الداخل الأوروبي. كل طرف دافع عن مصالحه الخاصة، وعاش في سياق جيوسياسي مختلف، مما أدى إلى إضعاف التحالف بشكل كبير. السياسات التي قد يتبناها ترمب قد تؤدي إلى تعميق الخلافات بين الدول الأعضاء، خاصة إذا كانت بعض الدول الأوروبية تعتبر روسيا تهديدًا مباشرًا، بينما قد تسعى الإدارة الأميركية للتقارب معها. بدون القيادة العسكرية الأميركية، قد تنقسم الدول الأوروبية بشأن الحرب في أوكرانيا. فقد تسعى دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى دعم أوكرانيا بقوة، خوفًا من أن يؤدي انتصار روسي إلى تعزيز موسكو وتشكيل تهديدات جديدة، بينما قد تميل بعض دول أوروبا الغربية إلى الضغط على أوكرانيا لتقديم تنازلات كبيرة لروسيا بهدف تجنب المزيد من النزاعات. يبدو من غير المرجح أن يسحب ترمب الولاياتالمتحدة من حلف شمال الأطلسي بالكامل، ولكن هناك العديد من الطرق لإلحاق الضرر بالحلف. على سبيل المثال، قد يقوم ترمب بإزالة الولاياتالمتحدة من القيادة العسكرية وهذا ما فعلته فرنسا في عام 1966. العلاقات عبر الأطلسي على مدار أكثر من 100 عام، تمثلت مصلحة الولاياتالمتحدة الوطنية الثابتة في أوروبا في الحفاظ على توازن القوى داخل القارة. فقد سعت إلى ضمان بقاء القوة الاقتصادية والعسكرية موزعة بين عدة دول، ومنع ظهور قوة أوروبية مهيمنة تحتكر تلك القوة لصالحها. قد تدفع هذه الاستراتيجية أوروبا إلى تعزيز سياستها الدفاعية المستقلة بعيدًا عن الولاياتالمتحدة، وهو ما قد يؤدي إلى ظهور شراكات أوروبية دفاعية جديدة أو تقوية الاتحاد الأوروبي دفاعيًا عبر الاستثمار بشكل أكبر في الدفاع، خاصة في دول مثل ألمانياوفرنسا، لتعويض أي فراغ محتمل في الدعم الأميركي. التهديد الروسي تعتبر روسيا أكثر خطورة بسبب موقعها الجغرافي و"سياستها العدوانية" و"أساليبها الهجينة". وقد يشجع تقليل الالتزام الأميركي روسيا على اتخاذ خطوات عدائية في أوروبا الشرقية، مثل تعزيز وجودها العسكري بالقرب من الحدود الأوروبية أو زيادة دعمها للنزاعات الإقليمية. حدث ذلك في جورجيا عام 2008، حيث تقاعس الحلف عن التدخل خلال حكم الرئيس جورج دبليو بوش الابن. وفي عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، تبنى حلف شمال الأطلسي سياسة التصعيد ضد روسيا وأنهى اتفاقية الشراكة معها. وفي عام 2016، نشر الحلف أربع كتائب متعددة الجنسيات في بولندا ودول البلطيق للدفاع عنها ضد أي عمل روسي متهور، وهو ما مثل أكبر تطبيق للدفاع الجماعي في الحلف منذ نهاية الحرب الباردة. دول أوروبا دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، قد تسعى لتعزيز قدراتها العسكرية أو بناء تحالفات داخل الناتو ومع الدول الأوروبية الكبرى. سيناريوهات محتملة إذا تمكن ترمب من تحقيق توافقات مع الحلفاء حول تمويل الدفاع، قد يستمر الناتو بشكله الحالي. للحلف مصلحة مشتركة في المساهمة في الاستقرار ومنع وإدارة الصراعات والاستجابة لها عندما يكون من المحتمل أن تؤثر على أمن الأعضاء والحلفاء. سيناريو التفكك إذا تصاعدت الخلافات، قد يكون هناك توجه نحو تقسيم داخل الحلف أو انسحاب بعض الدول. تواجه أوروبا تحديات كبيرة في تحديد من سيتولى القيادة الأمنية في حال انسحاب الولاياتالمتحدة. فألمانيا، رغم قوتها الاقتصادية، تعاني من عدم استقرار سياسي يجعلها غير قادرة على قيادة الجهود الأمنية الأوروبية بفعالية. أما فرنسا، على الرغم من قوتها العسكرية وامتلاكها للأسلحة النووية، فقد تكون موضع تساؤل حول استمرارية التزامها بالاستقرار الأمني. في حين أن المملكة المتحدة، التي تعد قوة نووية أيضًا، قد تجد صعوبة في تحقيق توافق داخل الاتحاد الأوروبي بسبب قرارها بالخروج من الاتحاد. في هذا السياق، تبرز بولندا كمرشح قوي لتولي القيادة الأوروبية، بفضل استثماراتها الكبيرة في الدفاع وفهمها العميق للمخاوف الأمنية لدول الجبهة الشرقية. ومع الحدود المشتركة مع روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، تتفهم بولندا بشكل أفضل التهديدات الأمنية التي تواجه القارة، ما يجعلها شريكًا محوريًا في الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية المستقبلية. * فك ارتباط أوروبا بالولاياتالمتحدة من جانبه يرى المحلل السياسي الألماني الدكتور توبياس فيلا أن الولاياتالمتحدة لم تعد شريكاً موثوقاً به لألمانيا وأوروبا. فالرئيس الأميركي دونالد ترمب يصف نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنه "ديكتاتور من دون انتخابات"، وينحي باللائمة على أوكرانيا في الحرب التي يتم شنها. ويعطى نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس الأوروبيين في ميونخ محاضرات عن حرية التعبير، ويلتقي أليس فيديل، زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف. من جهة أخرى تبدأ واشنطنوموسكو مفاوضات لإنهاء حرب أوكرانيا بدون إشراك الأوكرانيين والأوروبيين. وعلاوة على ذلك، هدد ترمب بشكل عرضي بالاستيلاء العدواني على جزيرة جرينلاند ذاتية الحكم التابعة للدنمارك. وأضاف فيلا، وهو باحث بارز في مكتب برلين لمعهد أبحاث السلام والسياسة الأمنية في جامعة هامبورج في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنترست الأميركية، أنه "لا يمكن تبرير كل هذا بأنه لغة خطاب أميركية مختلفة وأكثر حدة أو "حديث غرف مغلقة". ولو كانت واشنطن قد أرادت ذلك، لكانت قد قالت بتمعن إنها في حاجة لتقليص التزامها تجاه أوكرانيا أو أوروبا للتركيز على التحدي الذي تمثله الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وكان ذلك سيعتبر سياسة واقعية ولكن لها ما يبررها. وبدلاً من ذلك أذلت الإدارة الأميركية الأوروبيين، ولم تظهر استعدادًا لاتخاذ قرارات بدون التشاور مع القادة الأوروبيين فحسب، ولكن أظهرت أيضا نية لتفكيك أوروبا من الداخل. وأضاف فيلا أن "تفوق الولاياتالمتحدة يخدم اليوم هدفاً واحداً فقط، وهو مضاعفة قوة السوق الأميركية من خلال تحويل الدول الأخرى إلى أجزاء مفيدة للاقتصاد الأميركي. ومرة أخرى، يسأل الأوروبيون عما يمكنهم تقديمه للولايات المتحدة لتنتهج سياسة، إن لم تكن مؤيدة لأوروبا، تكون على الأقل ليست مناهضة لأوروبا. وكل هذا ليس أمراً إبداعياً بصفة خاصة أو ناضجاً، وهو لا يحقق العدالة أيضاً للوضع الحالي. فأولاً، لا تتخلى الولاياتالمتحدة عن مطلبها العالمي، وتواصل القيادة ولكن وفق منطق مختلف. وهذا منطق يتمتع بموجبه عدد قليل من الفاعلين بسيادة حقيقية ويحددون في نفس الوقت أين تنتهي سيادة الآخرين. وهذا منطق يجد له داعمين في موسكو وبكين. وفي هذا السياق، إذا تحركت أوكرانيا ضد إرادة روسيا، تكون مذنبة بشن الحرب لأنها أخلت بنظام عام مفترض. ثانياً، تكشف ردود الأفعال الأوروبية تجاه ترمب مرة أخرى أن الأوروبيين منغمسون في علاقة غير متناسقة مع الولاياتالمتحدة. وهذه علاقة يسأل طرف (بعد تلقيه صفعة في الوجه) الطرف الآخر ما الخطأ الذي ارتكبه، بدلاً من الرد على الصفعة أو على الأقل يغادر المكان. ولا يفيد مثل هذا النهج أوروبا التي تحتاج إلى نقاط اتصال للتحرك في الحاضر وتعد لمستقبل مختلف. ثالثاً، يحتاج الأوروبيون إلى أن ينقلوا بوضوح لواشنطن ما يتوقعونه أو يرفضونه من الإدارة الأميركية، وما هي الإجراءات التي هم على استعداد لدعمها وما شروط ذلك، وما هي الإجراءات غير المستعدين لدعمها. ويكون عرض التعاون مهما مثل التهديد، وفي حالات متطرفة ممارسة القوة المضادة. ويتعين على واشنطن أن تدرك أن سلوكها قد يؤدي إلى خسارة أوروبا كحليف في تنافسها مع الصين. وتعد تداعيات هذا التحول عميقة. وانتهى السلام الأميركي والنظام الدولي الليبرالي، ما يكشف عن أن هذا النظام يعتمد على قوة مهيمنة مستعدة للاستثمار في الحفاظ عليه. والآن هذه النموذج ينهار، وخلال تاريخ الولاياتالمتحدة كان هناك توتر بين الطموحات الإمبريالية والمبادئ الديمقراطية. ويميل هذا التوازن الآن بشكل حاسم صوب الطموحات الإمبريالية، مما يشير إلى أن عصر القيم المشتركة عبر الأطلسي يتجه إلى نهايته. وتابع فيلا أن "أوروبا في حاجة إلى تدعيم استقلالها، ويجب عليها أن تنتهج بشكل نشط استراتيجيات لتقليل المخاطر وفك الارتباط بالولاياتالمتحدة بما في ذلك تحقيق السيادة الرقمية وتطوير تكنولوجيات مهمة على نحو مستقل. ويتعين على أوروبا أن تبنى أيضًا قدرات عسكرية يمكن أن تكون فعالة بدون دعم أميركي، ويعد بذل جهد كبير لإعادة التسلح أمراً مطلوباً، ويعتمد في البداية على الصناعة الدفاعية الأميركية بسبب القيود الحالية في القدرة الأوروبية. وعلى المدى القصير، لا تستطيع أوروبا أن تنفصل بالكامل عن الولاياتالمتحدة، حيث إن القدرات الصناعية المحلية المحدودة والاعتماد على القدرات الأميركية يجعل ذلك أمراً مستحيلاً. وسوف تتمثل أي نقطة بداية جيدة في التركز على ضمان أن تتمكن أوكرانيا على الأقل من الاحتفاظ بخط الجبهة الحالي. وسوف يكون تكثيف التعاون الدفاعي بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مفيدًا أيضًا. وبالتالي، يجب الإبقاء على الهدف الطويل الأجل المتمثل في انفصال أوروبا بشكل كبير عن الولاياتالمتحدة. وهناك أشكال عديدة متاحة داخل إطار سياسة أوروبية جديدة تجاه أميركا: وتتمثل في الاتحاد الأوروبي، والدول الرئيسة في أوروبا بما في ذلك بريطانيا، وبرامج تركز على الدول المستعدة للدفاع بصفة خاصة مثل دول البلطيق أو توفير مساحة لمناقشات معينة على سبيل المثال بشأن الردع النووي. وكانت القمة حول أوكرانيا التي شاركت فيها دول أوروبية عديدة الأسبوع الماضي في باريس غير مثالية في هذا الصدد ولكنها خطوة أولى. وحلف الناتو ليس ميتًا، ولكن التخطيط للمستقبل يجب أن يمضي قدمًا على أساس هذا الافتراض. العمليات العسكرية المشتركة