يمكن التأكيد أن لقاء الرياض يُعتبر علامة بارزة تدل على مكانة المملكة في الساحة الدولية المقبلة، لا سيما في ظل تفاقم الأزمات وازدياد الحاجة إلى قوى عقلانية تتولى إدارة الأوضاع بعيدًا عن الانقسام الحاد، حيث تُبرز السعودية نفسها عنصراً أساسياً في معادلة السلام والاستقرار.. لا يمكن فهم اللقاء الأخوي الذي دعا إليه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في الرياض يوم الجمعة الماضية، وجمع قادة دول مجلس التعاون الخليجي وملك الأردن والرئيس المصري، بمعزل عن التغيرات العميقة في النظام الدولي، فالواقع أن الدبلوماسية التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب التطورات الجيوسياسية المتسارعة. وبينما تتشكل موازين القوى مجددًا على الساحة الدولية، مع استمرار الحرب في غزة والصراع المتفاقم في أوكرانيا، تبرز الرياض مركزا لإعادة ضبط الإيقاع الإقليمي والعالمي، وهذه الرؤية الاستراتيجية لا تكتفي بمعالجة الأزمات عبر ردود الفعل، بل تسعى لبناء منظومة أكثر استقرارًا تستند إلى شراكات دائمة. عُقد هذا اللقاء في لحظة حاسمة، حيث لم يعد مفهوم "التحالفات التقليدية" قادرًا على استيعاب تعقيدات موازين القوى الإقليمية، وإن استضافة السعودية لهذا الاجتماع غير الرسمي تعبّر عن رسالة جديدة تفوق فكرة العمل العربي المشترك، إلى إقامة شراكات إقليمية تتمتع باستقلالية استراتيجية، تتجاوز هيمنة القوى الكبرى، وتتحرك وفق مصالح المنطقة وأجندتها الخاصة. إن هذا التحول لا يتحقق بمعزل عن السياسة الخارجية السعودية، التي انتقلت من موقف رد الفعل إلى موقع المبادرة، حيث لم يعد أمن الخليج واستقرار الشرق الأوسط مرتبطين بالتغيرات الخارجية فحسب، بل أصبح بيد قوى المنطقة ذاتها، وفي مقدمتها المملكة التي أثبتت مهارتها في استيعاب المتغيرات وإعادة تشكيل التحالفات بطريقة تحافظ على مصالحها ومصالح شركائها. عندما نربط هذا اللقاء بالأحداث الدولية البارزة، يتضح لنا وجود خيط مشترك عميق بين حرب غزة والحرب الروسية الأوكرانية، وكلاهما يكشف عن أزمة جوهرية في إدارة النظام الدولي، حيث لم يعد ممكناً فرض الحلول عبر القوة العسكرية وحدها، كما أن نظام الاستقطاب الثنائي القائم بين الشرق والغرب بدأ يتآكل، ليحل محله تعددية قطبية جديدة، وهذا الوضع يضع السعودية في صميم هذه التحولات، ليس كطرف متلقٍ، بل كفاعل محوري في إعادة صياغة معايير العلاقات الدولية. إن تواصل التصعيد في غزة، دون وجود أي أمل حقيقي في تحقيق حل سياسي شامل، يدل على افتقار الإرادة الدولية الفعلية لإعادة تنظيم النظام الأمني في الشرق الأوسط، ومن هنا، سعى لقاء الرياض إلى تشكيل موقف عربي موحد يرتكز على مبادرة فعالة تهدف إلى إعادة ضبط ميزان القوى، فضلًا عن تحرر القضية الفلسطينية من براثن الصراعات الدولية على النفوذ، لتصبح مسارًا سياسيًا قادرًا على فرض معادلات جديدة تحترم الحقوق العربية، وتعيد التوازن إلى العلاقات بين المنطقة والقوى الكبرى. تجلى في الأفق أن الحرب الروسية - الأوكرانية تجاوزت كونها مواجهة عسكرية بين موسكو وكييف، لتتحول إلى امتحان حقيقي لقدرة النظام العالمي على معالجة النزاعات بطرق لا تزعزع الأمن الجماعي، وهنا، يتألق الدور السعودي كموازن استراتيجي، مُثمنًا علاقاته مع كافة الأطراف، مما يبوّئ الرياض مكانة رائدة في إعادة صياغة التفاعلات الدولية، متجاوزةً منطق الاستقطاب الحاد الذي هيمن على العقود الماضية. ما يميز السياسة السعودية في هذا السياق هو أنها لا تعتمد على منطق "تصفير الأزمات"، بل تسعى بفاعلية إلى إدارتها لضمان الاستقرار على المدى البعيد، ومنذ بداية الحرب في غزة، كان الموقف السعودي جليًا في رفض التصعيد العسكري، والتأكيد على ضرورة إنهاء العدوان، مما يعكس رؤية دبلوماسية ترتكز على تحقيق حلول دائمة لا على تسويات مؤقتة. هذا الموقف هو تجسيد لدور المملكة كوسيط موثوق بين القوى الدولية، وقد تجلى ذلك في دورها البارز في معالجة الأزمة الأوكرانية، حيث كانت من بين الدول النادرة التي نجحت في إقامة قنوات تواصل مع جميع الأطراف، بما في ذلك موسكو وكييف وواشنطن، مما مكنها من أن تكون طرفًا رئيسا في مساعي تحقيق تفاهمات تضمن أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي، لذا، فإن لقاء الرياض لا يمكن فهمه إلا ضمن هذا الإطار الأوسع، حيث تجاوزت المملكة كونها لاعبًا إقليميًا لتصبح مركزًا دوليًا لصياغة الحلول وإعادة توجيه المسارات السياسية بما يخدم الاستقرار العالمي. السؤال الجوهري هنا لا يتعلق فقط بمخرجات هذا اللقاء، بل بكيفية استثمارها في تشكيل مرحلة جديدة من العلاقات العربية - الدولية، ففي وقت تتغير فيه أولويات القوى الكبرى، ويُعاد تشكيل خرائط النفوذ، تبرز الحاجة الملحة لبناء تحالفات إقليمية ترتكز على الاستقلالية الاستراتيجية، لتصبح بذلك ضرورة لا غنى عنها، وليست مجرد خيار سياسي متاح. من خلال استضافتها لهذا اللقاء، تضع السعودية الأسس لنموذج مبتكر في العلاقات الدولية، حيث لا يُنظر إلى العالم العربي ككيان تابع للتحولات العالمية، بل كفاعل محوري في توجيه مسارها، ويعني هذا أن ما سيعقبه سيكون ذا أهمية أكبر، حيث يتحمل الأطراف العربية مسؤولية تحويل هذه اللقاءات إلى سياسات فعلية، تُحافظ على المنطقة بعيدًا عن الفوضى، وتعزز من دورها كفاعل رئيس في النظام الدولي الجديد. في آخر المطاف، يمكن التأكيد أن لقاء الرياض يُعتبر علامة بارزة تدل على مكانة المملكة في الساحة الدولية المقبلة، لا سيما في ظل تفاقم الأزمات وازدياد الحاجة إلى قوى عقلانية تتولى إدارة الأوضاع بعيدًا عن الانقسام الحاد، حيث تُبرز السعودية نفسها عنصرا أساسيا في معادلة السلام والاستقرار.. دمتم بخير.