تشكّل المخطوطات في مختلف العصور، مادةً تاريخيةً مهمة في حفظ التراث والثقافة والإنسانية، لما تقوم به من دورٍ في نقل التصور الكامل عن الفترة الزمنية التي تعاصرها. المخطوطات التي تُعرّف بأنها كل ما خُط وكتب باليد مباشرة، دون استخدامٍ لأدوات الكتابة الحديثة، تتنوع أشكالها ما بين مادة علمية أو وثائق رسمية أو أخرى غير رسمية، وغالبًا ما ترتبط بالمكتبات كونها المكان المخصص للمحافظة عليها والاهتمام بها، مما يُجسد اهتمام هذا العصر بثقافته ومدى التطور الثقافي الذي وصل إليه. وفي عهد الدولة السعودية الأولى، ازدهرت المخطوطات؛ نتيجة للاستقرار السياسي والاقتصادي الذي شهدته الدولة، مما نتج عنه ازدهار في الحركة العلمية والثقافية وبالتالي ازدادت المخطوطات التي كانت آنذاك الوسيلة الرئيسة للتبادل الثقافي والمعرفي. أئمة الدولة السعودية الأولى منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود عام 1139ه / 1727م، سعوا لنشر العلم والتعليم والإسهام فيه، وتعميمه على عامة الناس من منطلق ديني وثقافي عميق، مدركين بذلك أهمية العلم والتعليم في النهضة والازدهار الثقافي والعلمي، فكان له أعمق الأثر في زيادة كمية المخطوطات وكثرتها. ويمكن تعليل أسباب ازدهار المخطوطات والمكتبات وكثرتها في الدولة السعودية إلى عدة أسباب، أهمها الموقع الإستراتيجي لنجد، حيث إن وقوع منطقة نجد في منتصف الدولة السعودية الأولى، جعلها مركزًا لمرور المؤلفات، وطلاب العلم والرحالة من المناطق المجاورة من العراق والشام واليمن، وبين شرق وغرب الجزيرة من الأحساء ومنطقتي مكةالمكرمة والمدينة المنورة، كما أن العلماء وطلبة العلم والرحالة ممن قدموا إلى أراضي الدولة السعودية الأولى، كانوا يشترون هذه المخطوطات من أسواق بلاد الشام وبغداد وصنعاء، وأيضًا بعض قادة المناطق التابعة للدولة السعودية الأولى كانوا يشترون الكتب والمخطوطات من الأسواق، ويرسلونها إلى أئمة الدولة السعودية، من ذلك ما سجله الرحالة السويسري (جون لويس بوركهارت) عن شراء أمير عسير عبدالوهاب أبو نقطة، كميةً كبيرة من الكتب من أسواق اليمن وقام بإرسالها للإمام سعود بن عبدالعزيز. كما أن الدولة السعودية الأولى سعت في إرسال سفارات علمية يقوم بها علماء الدولة السعودية الأولى إلى هذه المناطق المجاورة؛ بهدف توسعة نطاق الحركة العلمية وتبادل ونشر الكتب والمخطوطات وإعارتها ونسخها بين المناطق التابعة للدولة وبين الأقاليم المجاورة، ومن تلك السفارات ما أرسله الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، إلى الشريف غالب في مكةالمكرمة برئاسة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عام 1211ه / 1796م وعدد من العلماء، وقد تم خلال هذه السفارة نشر وتبادل ونسخ المخطوطات والمؤلفات العلمية. ومن تلك السفارات أيضًا، ما أرسله الإمام سعود بن عبدالعزيز، إلى إمام اليمن علي بن العباس عام 1222ه/1807م، وقد تم أثناء هذه المهمة تبادل ونسخ العديد من المخطوطات العلمية أبرزها تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير. وقد نتج عن هذه السفارات زيادة أعداد المخطوطات والمؤلفات والكتب، الأمر الذي استدعى ضرورة حفظها من التلف في المكتبات، وهذا دليل على الاهتمام الفعلي بالبعد الثقافي لدى أئمة الدولة السعودية الأولى. وكان عهد الدولة السعودية الأولى عصرًا مزدهرًا بالنشاط العلمي، حيث انكب العلماء على التأليف ونسخ الكتب؛ مما جعل الدولة السعودية الأولى تزخر بالمخطوطات ونُساخها، وكانت الدرعية على سبيل المثال تزخر بالعديد من الوثائق والرسائل والكتب قبل سقوطها عام 1233ه/ 1818م، لكن لم يصل إلينا إلا القليل منها؛ بسبب إتلافها وإحراقها بعد سقوط الدرعية، ويذكر ذلك أحد شهود الأعيان الرحالة (جورج فورستر سادلير) الذي زار أراضي الدولة السعودية الأولى عام 1819-1818م، ونقل ما آلت إليه هذه الكتب والمخطوطات والمؤلفات، حيث دمرت بشكل كامل بعد سقوط الدرعية. وشملت هذه المخطوطات وثائق مهمة تصور لنا الحياة في الدولة السعودية الأولى، من خلال العديد من جوانب الحياة، فمنها وثائق رسمية، وغير رسمية، ووثائق إدارية واقتصادية، وعلمية، ووثائق الأوقاف، وعقود البيع والشراء، والهبات، والوصايا، وعقود الرهن، والمغارسة، وكتب التاريخ، والفقه، والعلوم الشرعية، واللغة العربية وقواعدها. وكانت مهمة كتابة المخطوطات تحال إلى أهل الخبرة من العلماء والقضاة وأئمة المساجد، وطلبة العلم والنساخ، فبالإضافة إلى إتقان القراءة والكتابة يجب على كُتاب المخطوطات التحلي بالأخلاق النبيلة، مثل: الصدق، والأمانة، والإخلاص في العمل، واشتهر من كُتاب المخطوطات العديد من العلماء الذين مازالت آثارهم باقية حتى الآن، مثل: الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عتيق الوهيبي، والشيخ عبدالله بن محمد البسام، الذي نسخ العديد من الكتب منها (معونة أولي النهى شرح المنتهى) للفتوحي، والشيخ سليمان بن علي آل مشرف، الذي علّق وأضاف حواشي لكتاب (جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام) للإمام ابن القيم، والشيخ محمد بن هادي بن بكري العجيلي، وكتابه (الظل الممدود في الوقائع الحاصلة في عهد ملوك آل سعود)، والشيخ محمد بن أحمد الحفظي الذي ألف كتاب (نفح العود في الظل الممدود). وعلى الرغم من ازدهار وانتشار المخطوطات في الدولة السعودية إلا أن الحصول على المواد لكتابة المخطوطات لم يكن أمرًا سهلًا، حيث تحتاج كتابة المخطوط إلى الأوراق والحبر والقلم، وقد بذل أئمة الدولة السعودية الأولى والعلماء جهدًا كبيرًا من أجل توفيرها، حيث لم تكن توجد في تلك الفترة آلة الطابعة. وكان تبادل وانتشار هذه المخطوطات يتم من خلال عدة طرق، كنسخها، واستكتابها، وبيعها وشرائها، وإهدائها، وإعارتها، فطريقة نسخ المخطوطات تعدّ هي الطريقة الرئيسة لانتشار المخطوطات وتداولها، وغالبًا تتم عن طريق نُساخ امتهنوا هذه المهنة، وأصبحت مصدر رزق لهم، أو تتم عن طريق قيام طلاب العلم بنسخ المخطوط الذي يحتاجون إليه أثناء قدومهم إلى أراضي الدولة السعودية الأولى في رحلتهم العلمية، وقد كان يقوم بنسخ المخطوطات من عرف بحسن خطه من العلماء وطلاب العلم أثناء إقامته في أراضي الدولة السعودية الأولى، أو من سبق له ممارسة نسخ المخطوطات. وبرز العديد من العلماء في الدولة السعودية الأولى ممن نسخوا كتبًا عديدة؛ ومن هؤلاء العلماء الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل، الذي نسخ كتاب (الإقناع للحجاوي)، والشيخ فوزان بن محمد بن حسن، والشيخ عبدالرحمن بن محمد بن شعيب، الذي نسخ عدة كتب منها كتاب (سيرة ابن هشام)، والشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، والشيخ جعفر بن محمد بن جعفر من الأحساء الذي نسخ كتاب (تيسير الملك الجليل بجمع الشروح وحواشي مختصر خليل)، كما نسخ الشيخ عيس بن المقبول كتاب (مواهب الصمد في حل صفوة الزيد). ومن طرق انتشار المخطوطات؛ طريقة الاستكتاب وهي تشبه طريقة النسخ للمخطوطات، وتتم طريقة الاستكتاب بطلب من الإمام أو الشيخ أو التاجر أو أحد وجهاء المجتمع لأحد النساخ الذين يمتهنون مهنة النسخ كمكسب رزق لهم، ويكون ذلك بمقابل مال، بالإضافة إلى أنه يتم مراجعة نسخ المخطوطات التي يتم استكتابها؛ للتأكد من صحة النسخ، وتكون طريقة المراجعة عن طريق مقابلة شخصين أحدهما يمسك بالأصل، والآخر يقرأ عليه المخطوط المنسوخ، وذلك عن طريق المقابلة، ثم تدوّن طريقة المراجعة على المخطوط من الخلف بالإضافة إلى تدوين أسماء من قام بالمقابلة والمراجعة. ومن طرق انتشار المخطوطات أيضًا طريقة البيع والشراء لها، التي تتم بين مناطق الدولة السعودية الأولى أو مع المناطق المجاورة للدولة السعودية الأولى، ومن وسائل البيع والشراء هو قيام ورثة صاحب المخطوط ببيع المخطوطات، فيقوم العلماء أو التجار أو طلبة العلم في الدولة السعودية الأولى ممن هم بحاجة هذا المخطوط إلى شرائه، ومن وسائل البيع أيضًا عرض صاحب المخطوط نفسه بيع مخطوطاته؛ لأنه بحاجة إلى مبلغ من المال، أو لاستغنائه عن المخطوط. وكذلك من طرق انتشار المخطوطات الإعارة، إذ إنه مع تزايد طلاب العلم والعلماء تزداد الحاجة على المخطوط، فيقوم بعض العلماء وطلاب العلم باستعارة بعض النسخ من الكتب والمخطوطات من بعضهم البعض؛ وذلك بهدف الاطلاع على الكتاب أو نسخه أو استكتابه أو الدراسة فيه أو الحصول على معلومة منه، مما أسهم في انتشار المخطوطات بشكلٍ كبير، ومن خلال هذه الطريقة أيضًا يمكن تبادل الكتاب بكتاب آخر، حيث يعرض المستعير كتابًا آخر مقابل الكتاب الذي طلب استعارته. وطريقة الوقف تعدّ أيضًا من طرق انتشار المخطوطات؛ حيث يقوم العالم أو الشيخ أو طالب العلم بوقف الكتب لطلاب العلم سواءً في المكتبات أو المساجد أو المدارس، أو كوقف التركة من الكتب أو المخطوطات بعد وفاة صاحبها، وأمثلة الوقف كثيرة في الدولة السعودية الأولى، ونذكر من ذلك أن قام الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود بوقف مجموعة من الكتب لطلبة العلم والعلماء والباحثين، وجعلها ثوابًا لوالده الإمام محمد بن سعود ووالدته. وفي ظل ازدهار المخطوطات استدعت الحاجة وجود المكتبات، وكان من أبرز المكتبات في الدولة السعودية الأولى مكتبة الدرعية التي كانت مقرًا لطلاب العلم والعلماء والباحثين والقراء، وتضم العديد من الكتب والمخطوطات والمؤلفات في العديد من المجالات، منها العلوم الشرعية من الفقه، والتفسير، والحديث، والتوحيد، وكتب الأدب، والشعر، والتاريخ، واللغة العربية وقواعدها، كما وجدت أيضًا في الدرعية مكتبات الأئمة الخاصة وأبرزها مكتبة الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، والإمام سعود، والإمام عبدالله، وكانت هذه المكتبات تضم أيضًا العديد من الكتب النادرة، حيث حرص الأئمة على اقتناء الكتب النادرة والقيمة التي تعود بالفائدة على القراء والعلماء وطلاب العلم، بالإضافة إلى أنهم حرصوا على أن تكون هذه المكتبات مفتوحة لطلاب العلم، ومن يفد إلى الدرعية بغرض التزود من العلوم المختلفة المنتشرة فيها آنذاك. ووجدت في بقية مناطق الدولة السعودية الأولى العديد من المكتبات الخاصة للأسر العلمية التي برز فيها العديد من العلماء، ومن تلك المكتبات مكتبة آل عبدالقادر في الأحساء، ومكتبة الشيخ أحمد المنقور في نجد، ومكتبة آل يعقوب في حائل، ومكتبة الشيخ حسن الشكور في مكةالمكرمة، ومكتبة الشيخ الحسن بن خالد الحازمي في المخلاف السليماني، ومكتبة الشيخ محمد الحفظي في عسير. الجدير بالذكر أن هذه المكتبات كانت خاصة؛ نظرًا لأنها تنسب لأسرة العالم أو الشيخ، ولكنها كانت تمثل المكتبات العامة في وقتنا الحالي فقد كانت مفتوحة لجميع طلاب العلم وكل من يريد اقتناء كتاب معين يتجه إلى هذه المكتبات.