يعد الدواء إحدى أهم السلع الضرورية في حياة الإنسان، وهو جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان الصحية، ويتزايد اهتمام الدول على مختلف مستويات تطورها وتقدمها بالصناعات الدوائية باعتبارها أحد أهم محددات الأمن الوطني، وأحد الأعمدة الرئيسة للاقتصاد المحلي، وسخرت لها العديد من الإمكانات لتأمينها صناعةً واستيراداً، وسنّت العديد من التشريعات لجذب الشركات العالمية المتخصصة في الصناعات الدوائية، وقدمت لها الحوافز التشجيعية كالإعفاءات الضريبية على الأجهزة والمواد المستوردة التي تدخل في الصناعات الدوائية، إلى جانب تخصيص بعض الموارد المالية لحثّ الشركات المتخصصة في الصناعات الدوائية على أنشطة البحث والتطوير والابتكار. وتلعب الصناعة الدوائية دوراً مهماً في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، وباتت الدول حريصة على امتلاك هذه الصناعة والتفوق فيها؛ من أجل تقليل الاعتماد على الاستيراد، وتحسين النظام الصحي، وضمان الاستجابة السريعة مع الأوبئة، لذلك تقوم بلادنا بجهود كبيرة للنهوض بالصناعات الدوائية والمعدات الطبية، من خلال توطينها، ورفع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، وصولاً إلى تقليل الاعتماد على الواردات، وجعل المملكة مركزاً مهماً لهذه الصناعة الواعدة، وتحقيق الأمن الصحي والاكتفاء الذاتي والاستقلالية للمملكة في هذا القطاع الحيوي، وقد نجحت المملكة خلال فترة جائحة كورونا في تحدي تأمين مستلزماتها من الأدوية من خلال الاعتماد على الصناعات المحلية، حيث وصل عدد مصانع الأدوية في المملكة إلى 56 مصنعاً بقيمة استثمارات 7 مليارات ريال، و150 مصنعاً للأجهزة الطبية باستثمارات 3 مليارات ريال، وفقاً لوزارة الصناعة، وبلغت قيمة سوق الأدوية في السعودية نحو (44 مليار ريال) في 2022م وفقاً لبرنامج تطوير الصناعة الوطنية، وتوقعت اللجنة الوطنية للصناعات الدوائية ارتفاع حجم سوق الأدوية والمكملات الطبية إلى أكثر من 50 مليار ريال في السنوات المقبلة، ويطمح برنامج تطوير الصناعة الوطنية إلى توطين 40 % من قيمة صناعة الأدوية السعودية والتركيز على دعم توطين المنتجات الأكثر تطوراً، لجعل المملكة مصنعةً ومصدرةً للأدوية إلى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ودول منظمة العالم الإسلامي بحجم سوق يتجاوز 400 مليار ريال. ومن التجارب الناجحة في مجال الصناعات الدوائية التي يمكن الاستفادة منها تجربة أيرلندا التي تعد متقدمة للغاية باعتمادها أحدث التقنيات وأحدث المعدات وإجراءات مراقبة الجودة، بدءاً من البحث والتطوير وحتى تصنيع وتسويق الأدوية الجديدة، والانتقال من إنتاج المواد الفعالة وتصديرها إلى معالجتها وتحويلها إلى منتجات نهائية ذات قيمة أعلى، وتمثل صادرات الأدوية فيها أكثر من 50 ٪ من إجمالي الصادرات، وأصبحت تحتل المرتبة 8 عالمياً في إنتاج الأدوية، وتضم 9 من أكبر 10 مصانع للأدوية في العالم، بحسب جمعية الرعاية الصحية الصيدلانية الأيرلندية «IPHA»، ولأن أيرلندا تعد ثالث أكثر اقتصاد حرية عالمياً بحسب مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2023م، بالإضافة لامتلاكها نظاماً للملكية الفكرية استطاعت جذب الكثير من شركات صناعة الأدوية للاستثمار فيها، فهناك نحو 120 شركة أجنبية لها مصانع في أيرلندا، وتتمتع أيضاً بسجل حافل في التميز البحثي السريري والأكاديمي وأنشأت عدة مراكز بحثية تدعم ثقافة الابتكار بالتعاون مع الجامعات الأيرلندية، مخصصة مبالغ طائلة لتمويل الأبحاث. إن عملية تصنيع الأدوية ونقلها وتخزينها وكفاية التصنيع المحلي تشهد تحديات كبيرة على مستوى العالم، كما أن الاعتماد بشكل رئيس على استيراد الأدوية بدلاً من تصنيعها محلياً يشكل خطراً كبيراً في حال انقطاع سلسلة توريد الأدوية؛ لذلك يشكل توطين صناعة الأدوية في المملكة بعداً استراتيجياً مهماً للغاية وركيزة أساسية لأي نظام رعاية صحية مستدام، وينبغي العمل على توطين صناعة الأدوية ودعمه من خلال توجيه القوة الشرائية الحكومية نحو المنتجات التي يتم توطينها، وتحفيز شركات الأدوية الرائدة عالمياً لافتتاح مصانع لها في المملكة، وقد أوضح معالي الأستاذ بندر الخريف أنه تم تحديد نحو 200 دواء لتوطينها، وتم افتتاح أول مصنع في المملكة خاص بإنتاج أدوية الأورام والأدوية عالية السمية عام 2023م، وبالأمس القريب وضع معاليه حجر الأساس لمصنع الإنسولين التابع لشركة سدير للأدوية في مدينة سدير الصناعية، والذي يعد خطوة مهمة في مجال تصنيع علاجات مرض السكري وتوطينها داخل المملكة، ولكي تصبح المملكة مركزاً مهماً للصناعات الدوائية ومصدرة لها أتمنى وضع استراتيجية متكاملة لتشجيع شركات القطاع الخاص والشركات الناشئة للاستثمار في الصناعات الدوائية، ودعمها بإعداد البحوث والدراسات بهدف ابتكار طرق علاجية جديدة ضمن الجامعات والمعاهد البحثية المختصة بالصناعات الدوائية، وقد أنشأت المملكة المعهد الوطني لأبحاث الصحة لترجمة المخرجات المعرفية إلى منتجات للتشخيص والوقاية والعلاج، وتطوير منتجات مبتكرة بالصناعات الدوائية والأجهزة الطبية والتقنية الحيوية الوطنية، كما أتمنى التعاون مع الشركات الدوائية متعددة الجنسيات عبر توفير المناخ الاستثماري المناسب، ودعم إنتاج الأدوية الجنيسة محلياً، وإنتاج المستحضرات والخلطات الحيوية التي تناسب التركيب الجيني للمنطقة العربية. أخيراً، لقد تمكنت بلادنا بفضل الله أولاً ثم بجهود حكومتنا الرشيدة -حفظها الله- من تحقيق انطلاقة قوية في الصناعات الدوائية، والدخول في مرحلة جديدة أكثر تطوراً، تستطيع من خلالها تحقيق أهداف الأمن الدوائي والمساهمة في زيادة الناتج المحلي والمنافسة عالمياً، حتى تصبح المملكة مركزاً مهماً لهذه الصناعة الواعدة.