ماذا يعني أن تمسك بين يديك كتاباً مطرزاً بسطور الحبر السوداء، ممهوراً بعناوين الأبواب والفصول، على أعتابه إهداء ومقدمة وفي نهاية مطافه فهرس المحتويات؟ سؤال ثقيل جداً في وقتنا الراهن، وتكمن الصعوبة في إدراك إجابته من خلال هذا التحول الثقافي الجماهيري باتجاه موجة القراءة الإلكترونية في فضاء السوشل ميديا، إذ تحول الكتاب الورقي من متن الاهتمامات لدى غالبيّة القراء إلى الهامش، واستطاعت الأجهزة الذكيّة، وابتكارات الذكاء الصناعي المتوالية أن تستميل المتابعين بكل فئاتهم إلى شاشاتها وبساعات طويلة من كل يوم، وبات بإمكان هذه التطبيقات أن تستهلك ما يزيد عن حاجتها الفعلية من الوقت بأضعاف مضاعفة، ولم يعد للأوراق المحبرة بالسطور سوى أصدقاءها القلَّة القدماء، الذين اختزنوا في أذهانهم صورةً فريدةً لصفحات الكتاب، وارتبطت ذاكرتهم بملامسة الأوراق، وتقليب الصفحات، أما السواد الأعظم من الناس والأجيال الجديدة فقد أسرتهم القراءة البصرية عبر الأجهزة، لأنّ من يصممها ويجدد برامجها ويحدث تقنياتها ذكيٌّ جداً يعرف كيف يسرق العقل والوقت من خلال دراسات نفسية واستهلاكية عميقة جداً، فاستغلّ الكثير من عوامل التحول الثقافي الإنساني المعاصر لصالح مبيعاته ومنتجاته، فالقراءة التقنية جاذبةٌ جداً، إذ تتميز بالعرض المدهش السريع، المصحوب بالمؤثرات الصوتية والتشكيلات البصرية، والقدرة الفائقة على نقل المشهد، والتأثير من خلال الألوان والتفاعل مع أكثر من حاسّة بشرية في وقتٍ واحد، كما أن مميزات القراءة الرقمية قدرتها على الوصول إلى ذهن المتلقي من خلال الإلقاء الصوتي والتمثيل المرئي والعروض المعلوماتية المثيرة، وكل ذلك يتم بأدنى جهدٍ من القارئ (الذي أصبح كسولاً جداً وأسيراً للجمود والثبات الحركي) فالجهاز المحمول كما نشاهد في كل مكان لا يفارق يد المتلقي ولو للحظاتٍ بسيطة، فهو مع صاحبه حين يكون في الشارع وفي العمل ومع الأسرة وبين الأصدقاء وفي السيارة، والقطار، والمترو، والطائرة، وقبل النوم بلحظات، ومع أول استفاقة بعد النوم، وفي رحلة الترفيه، وأثناء انتظار الطبيب، وخلال جولة التسوق، وبعد الفراغ من مراجعة الدائرة الحكومية، وخلال القيلولة، وهذا يعني أن القراءة الورقية توارت تماماً في هذا البرنامج الرقمي اليومي، ولم يعد هناك أدنى قدرة على تحمل البقاء بين السطور المكتوبة على الورق، مقابل الانغماس الواعي أو اللاواعي في موجة الحركة الثقافية المتحولة في عصرنا الحاضر، وزادت القبضة من قوة الإحكام من خلال ارتباط هذا الجهاز الرقمي بشؤون الحياة اليومية، فمعظم احتياجات مجتمعنا اليوم أصبحت مرتبطة تماماً بالجهاز المحمول، بدءاً بإجراءات الدواء والتعليم والصحة والسفر، وانتهاءً بالتسوق الإلكتروني والترفيه والأكل، وبعد هذا الاستعمار التقني الجديد للحياة البشرية فماذا يمكن للورق أن يفعل مقابل الشاشة الإلكترونية؟ في الواقع إن اليد التي لا تقوى عليها عليك أن تصافحها، والحل هو توظيف هذه الرقمنة قدر الإمكان لهذا النوع الجديد من القراءة الإلكترونية، فالشمس لا يمكن حجبها بغربال، والأفضل هو التعامل الذكي والذكي جداً بالمستوى الذي يناسب هذا الذكاء التقني والصناعي، أما الاكتفاء بأطلال الماضي، فالقطار ماضٍ لا محاله، باتجاه محطاته الجديدة وبه من الركاب ما يكفي لأن يمضي في رحلة آفاق المستقبل، فكن أيها القارئ مرناً بالقدر الكافي وأصيلاً بالقدر الذي يجعلك مرتكزاً على أرضك الصلبة.