لعلّ الرئيس الأميركي ترمب هو الرئيس المنتخب الوحيد من بين قادة العالم في العصر الحديث الذي يقول ما يريد ويُعلن ما يعتقد دون مراوغة دبلوماسيّة أو اعتبارات قانونيّة ثم يأتي فريقه لتكييف تصريحاته وقراراته في ظلال القانون والاعتبارات الدوليّة قدر إمكانهم. ولهذا فكلّ الحلفاء والجيران تقريبًا أخذوا نصيبهم من عاصفة التصريحات والقرارات التي أطلقها ترمب بشكل مربك والتي بلغت حوالي 60 قرارًا تنفيذيًا في حوالي 18 يومًا منذ بَدْء رئاسته في 20 يناير 2025. ويُضاف إلى ذلك قراره الرئاسي في أول يوم وهو على المكتب البيضاوي الذي ألغى بموجبه 91 أمرًا تنفيذيًا أصدره سلفه "بايدن". وهذه العاصفة من القرارات وإن بدت استثنائيّة في تاريخ الرؤساء الأميركيّين من حيث العدد والزمن والتأثير إلّا إنها لم تكن مستغربة من ترمب، فقد تعهّد قبل تنصيبه بتوقيع 100 أمر تنفيذي في أول يوم له في منصبه. وربما يكون العنوان الأبرز لهذا السيل من التصريحات والقرارات التنفيذيّة للرئيس ترمب حَسَبَ مؤيديه هو خدمة مصلحة أميركا (العظيمة مرة أخرى) وتحقيق مبدأ "أميركا أولًا" (America First) والمتمثّل في إعادة تشكيل الحكومة (الفاسدة من وجهة نظره) بشكل جذري، واستعادة مكانة أميركا على الساحة العالميّة، والتأثير (الإيجابي) على الحياة اليوميّة للأميركيّين في عموم الولايات الأميركيّة. وعلى الرغم من كل ذلك يظن كثيرون بأن ترمب ينفعل ويفعل ولكن الحقيقة أن ترمب يعمل وفق أجندة وخطة منسقة وضعتها مؤسسات كبرى تخدم اليمين الأميركي في كلّ عهوده. ولعل أبرز هذه الخطط مشروع 2025 (المشروع مُمتلِئ بمستشاري ترمب السابقين) الذي قلّل ترمب من اهتمامه به في حملاته خَشْيَة من الناخبين المستقلين ولجذب شرائح الذين فقدوا الأمل في الديموقراطيّين. هذا المشروع الضخم قدّمته مؤسسة التراث (Heritage Foundation)، وهي واحدة من أبرز مراكز الفكر اليمينيّة في واشنطن. وحتى مع تنصّل ترمب من بعض الأفكار (التي أثارت الجدل) في وثيقة المشروع إلا أنه عيّن أبرز من وضعوا المشروع في إدارته الجديدة مثل: راسل فوغت رئيسًا لمكتب الإدارة والميزانيّة، بيتر نافارو مستشار أول للتجارة والتصنيع، بريندان كار لرئاسة لجنة الاتصالات الفيدراليّة، توم هومان مسؤولًا عن مِلَفّ أمن الحدود الأميركيّة، كما وظّف آخرين من ذات الفريق في وظائف مهمّة. هذه الوثيقة (مشروع 2025) تحدّد أربعة أهداف سياسيّة رئيسة للإدارة الأميركيّة: استعادة الأسرة كمحور للحياة الأميركيّة، وتفكيك الدولة (العميقة)الإداريّة، والدفاع عن سيادة الأمة وحدودها، وتأمين الحقوق الفرديّة التي وهبها الله للعيش بحريّة حسب نصوص الوثيقة. ترمب يبدو مشغولًا بالداخل وتوسيع الأراضي الأميركيّة في نصف الكرة الغربي (والذهاب إلى المِرِّيخ)، وتبدو عاصفته -حتى الآن- أقل هبوبًا تجاه القُوَى الكبرى، فهل سيمنح ذلك الصين وروسيا حريّة قيادة "مناطق النفوذ" حولهما وإبقاء التنافسيّة الاقتصاديّة حيّة، وهل هذه تَرْجَمَة لتصريحه الذي قال فيه "سنقيس نجاحنا ليس فقط من طريق المعارك التي نفوز بها، ولكن أيضاً بالحروب التي ننهيها -وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا ندخل فيها أبداً". أم أن ترمب يكسب الوقت ليبدأ أولاً مع الدول المارقة –حسب الوصف السياسي الأميركي- مثل إيران وكوريا الشِّماليّة ثم يتفرّغ للتنّين الصيني ويتفاهم مع موسكو؟ * قال ومضى: استمع لأصحاب الرأي، واعلم أن صاحب المعلومة لا يفسد للرأي قضيّة.