هل ثمة علاقة بين اتساع مدارك العقل والتواضع؟ وهل يقود العقل الذي صاحبه يحمل مدارك عقلية ضيقة إلى الكبر والغرور؟ قد تبدو هذه التساؤلات جدلية بدرجة ما، ولكن المتعمق في السلوك البشري، وفي الفكر الإنساني وشواهده قديماً وحديثاً سيجد بأن ثمة علاقة واضحة بين العقل صاحب القدرات العالية، وبين التواضع كما هو الحال الذي يغلب على الملوك وأبنائهم الذين يتواضعون، ذلك أن العلاقة تستحق البحث. وكما أن صاحب العقل متسع المدارك يتواضع لأنه يحمل درجات عالية من الثقة بالنفس، كذلك الملوك وأبناؤهم يحملون ذات الدرجات العالية من الثقة بالنفس، وصاحب العقل واسع المدارك يرى صورة الحياة مكتملة المعاني عنده لا يخطئ تلك المعاني، وتجعله قادراً على رسم صورة صحيحة عن الحياة، فترى أفعاله متزنة، حكيمة، ناتجة عن رؤية تحليلية عميقة لأحداث حياته وأحداث حياة الآخرين من حوله. صاحب العقل ذو المدارك الواسعة يسير في الحياة بين الناس باتزان وهذا الاتزان يجعله معتزاً بذاته، وكلما حققت ذات الإنسان قيمتها الحقيقية داخل نفس الإنسان، لا قيمتها الشكلية التي سمتها التظاهر كلما شعر الإنسان بقوة ذاتية تمنحه الاطمئنان الحقيقي، فمن مصادر الاطمئنان الرئيسة بعد العلاقة القوية مع الله سبحانه وتعالى، مصدر رسوخ فكرة تقدير الذات عند الإنسان. وكلما كان العقل ضيقاً محدود المدارك كلما نظر الإنسان بتقدير ذات أقل لنفسه، وهذا يجعله كنتيجة لا يملك الحد الكافي من الثقة بالنفس ليرى صورة الحياة الكاملة، فيحاول أن يعوض هذا النقص بإظهار سلوكيات سلبية ظناً منه أنها ستشكل للعالم الخارجي الصورة التي يظن أن الناس سيقتنعون بها، بينما الحقيقة أن أصحاب الخبرة في الحياة، وأصحاب النظرة الثاقبة سينظرون إلى عدم التواضع كسلوك على أنه دليل قاطع على ضعف الثقة بالنفس وضعف تقدير الذات. صاحب المدارك الواسعة المقدر جيداً لذاته هو أيضاً يدرك أن ذوات الآخرين مهمة، وتستحق التقدير، لذا سنجد صاحب مؤسسة واسع المدارك العقلية يمارس إدارة ذات ملامح قيادية داخل المؤسسة لأنه يرى الآخرين بعين رؤيته لنفسه. التواضع سمة متحققة في سلوك كثير من الناس بكل مستوياتهم، وهي سمة لا يمكن تنميتها في النفس وتعزيزها من دون تصحيح فكري مفاهيمي لقضايا حياتية متنوعة، وتحقيق مستويات أعلى من سلوك التواضع ينظر إليه اليوم على أنه نتيجة تراكمية لانتقالات فكرية متعددة تنتجها إما تجارب الحياة أو تقود إليها المعرفة أو تحققها درجة توجه الإنسان إلى التدبر والتفكر الذاتي.