يعرف العلماء الحضارة بأنها ثمرة جهد الإنسان سواء كان ذلك في الجوانب الفكرية أو الجهد العضلي، والحضارة هي مفهوم واسع يتسع لكل نشاط الإنسان وما يقوم من أعمال ومنجزات على الأرض، وبما أنها جاءت على النحو من التعريف فهي بالضرورة مؤداها إلى مفهوم فلسفي واسع تتجلى في منجزات الإنسانية؛ لأن كلمة فلسفة تعطي معنى أكبر ورؤية أشمل لتقرير العديد من النتاج الحضاري على مستوياته المختلفة الفنية والفكرية ومظاهره المتعددة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ففي الوقت الذي نرى فيه -وللأسف- من يعتقد أن الحضارة العربية والإسلامية تنحصر حول الجوانب الفنية وتحديداً في فن العمارة، وأن نماذج البناء الأندلسي هي التي تدلل على قوة تلك الحضارة؛ فإنه من المؤكد عند حصرها في هذا المفهوم الضيق يجعلنا نتراجع عن الخط المتقدم فضلًا عن تبوؤ الصدارة. وهو خطأ جسيم نربك به رؤية الأجيال المتطلعة إلى الحضارة بكل أبعادها وتعدد منجزها منذ طلائع فجرها المشرق. ويبررون ذلك بأن الهدف منه هو الارتقاء بذوقيات الناس إلا أن ذلك الإرباك من وجهة نظري يتجاوز هذا التبرير ويتضح لنا من خلال بعدين. إما نكون جاهلين بآفاقها ومنجزاتها، أو متجاهلين وعامدين بذلك للفت الأنظار إلى فن العمارة والزخرفة والنقش فقط في محاولة جادة لإدهاش الناس بأبعادها الفنية والجمالية ليس إلا ومعرفة الحياة الباذخة والأماكن المخملية فقط حينما كانت الحضارة العربية والإسلامية في أوج ازدهارها وبهذا التبرير بالمطلق لا أرى لهم منطقًا فيه ولا أراهم محقين به. فهم بذلك غير آبهين بما جاءت به من علوم ومعارف، ولا مستشعرين الدور الحضاري الذي تبوأته حضارتنا؛ وهذا لاشك تقهقر ونكوص وعكس توجه الحضارة نفسها، وهي غاية ضيقة تقصر بكثير عن الأهداف التي جاءت بها ومن أجلها، ولهذا أدعو إلى المزيد من إجراء بعض الدراسات المستفيضة والجادة والانفساح على بعض الآراء والبحوث والدراسات لنستجلي من خلال ذلك حقيقة الأبعاد الهندسية والملامح الفنية وأنساقها الجمالية؛ لأن الناس ليسوا على مستوى واحد في خبرتهم الجمالية، فالشيء المُدرَك يظل حاضرًا للمدرِك، ولكن يبقى على مسافة وهذه الآراء والدراسات أرى أنها تجسر بين كل مسافة وأخرى، مما يتطلب فطنة تذاهنية لخلق تساؤلات بشعور واعٍ. وهو الأمر الذي نؤكد عليه كون البعض يجهل في ذلك جوانب مختلفة واتجاهات متعددة، وهنا يكمن دور المثقف لاستشراف الآفاق البعيدة لهذه الحضارة وعلينا أن لا نهتم بالمسائل الشكلية كالقصور وملامح النقوش وغيرها برغم أهميتها لكنها تحتاج إلى تعليل وشروح مفصلة لتصل المفاهيم الفنية والجمالية للمتلقي، وبالتالي فإنه وعلى المدى المنظور سيؤثر ذلك على ثقافة الناس وعلى وعيهم نحو هذه الحضارة، وبالتالي على طريقة رؤيتهم التي ستظل تتمحور حول الظاهر من ملامح فنية مهنية صرفة دون أن تتجاوز ذلك إلى نظرة فاحصة لمعرفة ما هو أعمق ليُرى كل منجز في حضارتنا العربية والإسلامية بما فيها البعد الجمالي، في المقابل نجد من يتغنى بأمجاد الماضي حول الحضارة العربية والإسلامية ويندب حظه العاثر على حاضره الذي ملأه بالبؤس والحسرة في صورة مشينة أشبه ما تكون بجلد الذات. وفي هذا نكون قد أدرنا الظهر عن الحاضر وأغفلنا الدور المنوط بنا تجاه المستقبل فمحطات الماضي المشرقة هي الطاقة التي نستلهم منها قوة دافعة لحاضرنا دون الثبات عليها في انطلاقة فاعلة نحو آفاق عليا تقود إلى المعارج والعلو من خلال فكر نيّر جاء به الإسلام حاثًّا على العلم والمعرفة على مبدأ (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) والذي يجب أن ننطلق منه بكل قوة إلى المستقبل دون التباكي على ماضٍ لن يعود على الإطلاق فالحضارة العربية والإسلامية تميزت عن غيرها واتسمت بمعطاءات مختلفة وقد غذّت الإنسان بجوانب فكرية وروحية وأخلاقية، وتعاملت مع الإنسان بوصفه إنسانًا ومستخلفًا في الأرض وإن الإسلام الذي جاء بالحضارة هو مشروع حياة، الأمر الذي ميزها عن بقية الحضارات، بل وأصبحت مصدرًا أساساً للحضارات اللاحقة لمشروع حياة، جماع القول إن الحضارة العربية والإسلامية ميدانٌ عريضٌ وعريقٌ، وفيها ثقافات متباينة واتجاهات فكرية متعددة وعلوم ومعارف مختلفة، وهذا ما يستدعي الدراسة والبحث في كل ميادينه واتجاهاته، وهو ما أتمناه.