يُقال إنَّ الإنسان ابن ذاكرته، فهي ذاته وكينونته التي لا تغيب، ولو قُدّر لها أن تغيب فسيغيب هو الآخر معها، هكذا بظني من واقع الفلسفة المثالية، وأزعم أنّ الكثير يتفق معي في ذلك، ولأنّ اللغة والفكر هما ما يُميزان الإنسان عن غيره فإنّه لمن المُسلَّم به أن لا وجود للغة من دون الذاكرة بكلِّ أنواعها؛ فالذاكرة العاملة تضمن عملية توالي إنتاج الكلمات والفهم، والذاكرة الضمنية تضمن تكوين القواعد النحوية، والذاكرة الدلالية تضمن تحقيق المعرفة، والذاكرة العرَضية تضمن بناء عملية التواصل وفق الخبرات الشخصية؛ حيث إنّ هذه الأخيرة تُعدُّ جزءًا من قدرةٍ أكثرَ عموميةٍ لسفر الذهن بين المستقبل والماضي، بل وتمتد حتى إلى الخيال؛ حتى ليرى مايكل كورباليس (Michael Corballis) أنّ القدرة على توليد السفر الذهني عبر الزمن تكمن وراء قدرة اللغة ذاتها. وقد تكون الأساس لما يُسمّيه تشومسكي لغة الأنا (i-language) أي (اللغة الداخلية الفردية)، أو القواعد النحوية الكُلِّية التي تُمثّل القدرة على تكرار التفكير المستقل عن اللغة التواصلية ذاتها. وإذا كان تشومسكي يرى أنَّ لغة الأنا تطوَّرت إثر خطوة واحدة بعد ظهور الإنسان العاقل بردحٍ من الزمن، فإنّ كورباليس يقترح أنّ الخيال المُولَّد والمُمتد مكانًا وزمانًا يحظى بتاريخٍ متطوّر سحيق، وأنّ القدرة على مشاركة الأفكار الداخلية وليس طبيعة الأفكار ذاتها، هي ما تُميز البشر عن غيرهم من الأنواع الأخرى بشكل جلي. ومُؤدّى ذلك أنّ الذاكرة بكلِّ أنواعها تُمثّل أهمِّية بالغة للغة. وحيث إنّ اللغة ذات طبيعة متوالية فإنّ ذلك يضطرّنا غالبًا إلى الذاكرة قصيرة المدى أو ما يُعرف بالذاكرة العاملة بوصفها نافذةً ذات تأثير على الوعي ومُحفّزًا لفهم الجُمل ومراجعتها مع مرور الوقت. وأمَّا الذاكرة طويلة المدى فإنّها تنقسم إلى عدة مُكوِّنات، وكلُّ مكوّنٍ منها يؤدي بدوره وظيفة ضرورية في التواصل اللغوي. وللتمييز بين الذاكرة الواعية واللاواعية، فإنّ قواعد اللغة ابتداءً هي قواعد لا واعية، وهي مُكتسبة إلى حدٍّ كبير، ذاك أنّ اللغويين لم يوضحوا بالضبط كيف تعمل هذه القواعد. فهي تعمل غالبًا بشكل تلقائي؛ فحدسنا هو ما يقودنا إلى بناء الجملة، وإن كُنّا في الحقيقة لا نعرف كيف نقوم بذلك. ويُعبَّر عن الذاكرة الواعية أحياناً بالذاكرة التصريحية، أو إن شئت فقل الذاكرة التي تطفو على الذهن ويمكن التصريح بها. وإذا ما كان جزء من الذاكرة ذاكرةً تصريحية، فإنَّ جزءًا من اللغة في الوقع هو ذكرياتٌ مُعلَنة. ويمكن تقسيم الذاكرة الواعية بدورها إلى ذاكرة دلالية (معرفة أساسية)، وذاكرة عرَضية (معرفة شخصية). وبصفة عامّة فإنَّ الذاكرة الدلالية تبدو كموسوعة داخلية، في حين أنّ الذاكرة العرَضية تبدو كمُذكَّراتٍ داخلية تُدوِّن التجارب الشخصية الآنيّة. على أنّ اللغة تعتمد على كلتا الذاكرتين. فالذاكرة الدلالية تتضمن ذخائر من البيانات الضخمة التي تضمُّ عشرات الآلاف من الكلمات التي نستخدمها للتعبير عن أفكارنا فضلاً عن توفير أنواع المعرفة التي يُمكننا الحديث عنها، ومع ذلك فإنّ الذاكرة العرَضية تظلّ هي في حقيقة الأمر ما يمنح اللغة العديد من خصائصها الأكثر تميزًا. فالذاكرة العرَضية هي التي تمنحنا السفر الذهني إلى مستقبلٍ أو ماضٍ، بل وحتى إلى تصوّر أحداثٍ خيالية صِرفة لا تعوزها الإشارة إلى زمنٍ ما (كان يا مكان) وغيرها من الخيالات الخصبة الخلاقة، وهي وإن بدت ذاكرةً غير دقيقة إلا أنّها مع استشراف المستقبل والخيال ستبدو أفضل منها مع استحضار الماضي والتَّذكُّر؛ حيث يعتمد السفر الذهني عبر الزمن بدوره على فهم الزمكان اللغوي مع تشفير المُعطيات وفقًا لطبيعة الحدث؛ ولذا يرى كورباليس أنّ السفر الذهني عبر الزمن يوفّر الأساس للجوانب التوليدية والإبداعية للغة، ممّا يسمح لنا بالاتصال بالماضي والمستقبل، بل وحتى سرد الحكايات التي لا أساس لها في الواقع. فاللغة سواءً كانت منطوقة أم غير ذلك فإنّه يمكن عدُّها أداةً نشارك بها سفرنا الذهني، كونها تسمح بممارسة الخيال. وأمَّا في الواقع فقد تنبع الطبيعة المتكرّرة والمُولِّدة للغة نفسها ليس من بنية اللغة ذاتها، بل من بنية الأفكار الخيالية التي تكمن وراءها. ولذا فثمة ارتباط معقّدٌ بين اللغة والثقافة، فذكرياتنا اللغوية تختلف من لغة إلى أخرى، وما يُمكن أن يؤثّر في طريقة سفرنا الذهني المرتبط بلغة ما يختلف عن طريقته بلغة أخرى.