صعود رجل أعمال إلى أعلى منصب سياسي في العالم يمثل ظاهرة لافتة، زاد أن تحالف ترمب مع رجل الأعمال الآخر إيلون ماسك ليشكّل نموذجاً جديداً يعكس تغيراً في معايير القيادة والاختيار، وأن الأيديولوجيات أو الخلفيات السياسية التقليدية لم تعد المحرك الأساسي، مقابل الكفاءة الاقتصادية والفكر العملي والقدرة على التأثير والتواجد في المنصات الاجتماعية الجديدة. هذا التحالف والاكتساح الذي حققه ترمب هو نتيجة للتحولات الأعمق التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين؛ حيث كان القرن الماضي مشحوناً بالمذاهب الفكرية والسياسية التي هيمنت على الساحة العالمية، مثل الرأسمالية والاشتراكية، بالإضافة إلى التيارات الفكرية كالديمقراطية والليبرالية والمسؤولية الاجتماعية، والتي كانت بمثابة أطر تفسيرية لفهم العالم واستقطاباته ورسم السياسات، كما شكلت بُعداً حضارياً وثقافياً للمجتمعات. في العقدين الماضيين خفت تأثير هذه المذاهب، وهذا ليس بالضرورة نتيجة انتصار مذهب على آخر، بل يعكس تحولات أعمق في طبيعة الفكر العالمي والوعي الجمعي، حيث أصبحت العولمة والتكنولوجيا الحديثة هي القوة المحورية في عالم اليوم، وحلت مفاهيم مثل الابتكار، التحول الرقمي، الاستدامة، والحوكمة محل تلك الأطر الفكرية التقليدية، وأصبحت القضايا التقنية والبيئية مثل الذكاء الاصطناعي والتغير المناخي هي التي تحدد الأولويات العالمية بدلاً من النقاشات الفكرية حول الأيديولوجيات. لكن هذا التغير لا يخلو من تبعات واضحة، فغياب النظريات الكبرى والاعتماد المفرط على التكنولوجيا أدى إلى ما يمكن تسميته ب"الفقر الفكري"، حيث طغت السرعة والاستهلاك على بناء الرؤى العميقة والأطر الحاكمة، مما خلق فراغاً فكرياً، وأثر على قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات المعقدة بعمق وتوازن. يكفي أن تتابع الحوارات السياسية الدائرة على منصة "إكس"، حيث يظهر تقلب المزاج العام مع كل قرار سياسي أو اقتصادي، المشهد يشبه حركة مؤشرات الأسهم التي تتغير بسرعة، ما يعكس غياب إطار فكري أو عقيدة سياسية عامة توجه النقاشات.. هذا الغياب أدى إلى تراجع التفكير الاستراتيجي طويل المدى، إذ أصبحت المصالح والمكاسب هي المحرك الأساسي للعلاقات العامة والنقاشات الكبرى وليس الانتماء الفكري أو السياسي. السبب الجوهري بالإضافة إلى انكفاء الفلاسفة عن إنتاج نماذج جديدة تلبي احتياجات المجتمع هو انشغال المجتمعات بالاستهلاك والتكنولوجيا على حساب الأسئلة الوجودية الكبرى، فلم يعد الوعي والإطار الفلسفي يشكل أولوية في ظل الهيمنة المادية والعملية التي تطغى على المشهد. هنا جاءت رؤية المملكة 2030 كنموذج بارز في عالم لم تعد تنطلي عليه الشعارات ويتجه نحو العملية البحتة.. فقد أضافت الرؤية إلى جانب شقها الاقتصادي بعداً وطنياً يعزز الانتماء ويحشد الجهود، ولم تعد الرؤية مجرد خطة اقتصادية، بل أصبحت مشروعاً وطنياً شاملاً يجمع بين استثمار الفرص الاقتصادية وتحفيز روح العمل الجماعي والانتماء، وشكلت استجابة واعية لعصر جديد من الإلهام العملي والفكري.