أحيانًا وبدون إدراك يستيقظ فينا شعورٌ ما نتيقن من خلاله أن للأيام صوت، وكم هو عميق ذلك الصوت، فهو يعبر من خلالنا، يتجاوز الزمن ويعيدنا لذلك الفلق الأول، قبل عدة أسابيع مررت صدفةً بإحدى الجامعات، ورأيت تجمعات الطالبات، كانت أصواتهن تتعالى، نقاشاتٍ حادة، جَلَبة وضحك، حواراتٍ وأسئلة، ومحاضرات، أكواب قهوة، وأرديةٌ شتائية، كتب وحقائب وفيضٌ من البهجة يغلف المكان، كل تلك التفاصيل كانت تشي بالضوء، وكل ذلك الضجيج لم يكن سوى ضجيج الحياة، وجدت نفسي داخل مشهدٍ مستعار لطريقٍ قد مررت به، وشعرت بأني انتسب ضمنيًا إلى هذه الأيام، وامتلك الكثير من تلك اللحظات المجففة على حائطٍ غير قابلٍ للنسيان، لم تكن (أيام الدراسة) أيامًا عادية على أحد، فهي الوِجهة للمستقبل، هي فيضان الإنسان، هي النوافذ الأولى لمشاهدة العالم، (أيام الدراسة) من وجهة نظري أيام ذهبية لكل الفئات البشرية نساءً ورجالًا، فهي حياة لن تتكرر، هي البدايات، والبهجة والأحلام الواسعة، هي الإرادة الممتدة، هي الاستثناء لكل ما هو جميل، فهناك في تلك المرحلة من العمر كنا مترفين بضوضاء الشغف، وكانت همومنا صغيرة وأمنياتنا كبيرة، كانت حكاياتنا حالمة وملوَّنة وغير قابلة للوأد، كانت طموحاتنا أشدَّ بريقًا وأشدَّ عزمًا، كان الأمل يتجدد رغم وقوفنا على الحواف الأولى للأشياء، كانت مقارعتنا للحياة تملأ الصباحات بهاءً وبهجة وبشاشة، حين مضت أيام الدراسة وغادرنا نحو الحياة، اتسعت المشاهد، وتنوعت الأحداث والحكايات، لم نعرف بأن الطريق سيكون أصعب، ولم نعرف بأن القادم أكبر من ضحكات الأصدقاء وقلق الاختبارات، وأضخم من المقاعد والمعامل واللوح الأبيض الذي يتوسط جدران الحجرات الدراسية، لم نعرف أن الزمن أعمق من الأحلام ومن تفاصيلنا البسيطة، غادرنا أيام الدراسة بأصدقاء جيدين وقلوب مفخخة بالحنين، وزمن لا يعرف الاتجاهات، غادرناها وبقيت تنبض في الطرقات وملامح الآخرين، بقيت كعطرٍ مدهش تلتهب له خلايا الذاكرة، بقيت كصورٍ بارعة نعلقها على حائط العمر، ونتأملها بحب لا بحسرة لأن فكرة الأبدية فكرة مؤذية.