يتشكّل عالمنا اليوم سياسيًا واقتصاديًا وأمنيّا بصور جديدة ومفاهيم حديثة خارج أطر التحالفات والقوى المهيمنة التي تسيّدت منذ الحرب الغربيّة (العالميّة) الثانية حتى وقت قريب. ولعل أنسب مفهوم سياسي (نظريّة) لتفكيك خصائص هذا الواقع الجديد يأتي ضمن ما يسميه بعض علماء السياسة بالتعدديّة التفاعليّة الجديدة (Neo-Transactional Multilateralism - NTM). وتفسيرها الأوضح يعني نمو مظاهر العلاقات التفاعليّة الدوليّة (إيجابيّة/ سلبيّة) بدلًا من التحالفات الأيديولوجيّة، وهذه التفاعلات تستند إلى تقديم الشراكات العمليّة المعتمدة في الأساس على المصالح الآنيّة والملحّة بدلًا من التحالفات الأيديولوجيّة طويلة الأمد. ونتيجة لذلك وحيث لم يعد العالم اليوم ثنائي القطب (كما كان في الحرب الباردة) أو أحادي القطب (مع هيمنة الولاياتالمتحدة بعد الحرب الباردة)، أصبح لدينا تشكّل جديد متعدّد الأقطاب مع تحالفات متغيرة (مثلما تفعله الولاياتالمتحدة، الصين، الاتحاد الأوروبي، الهند، روسيا). ويعزّز هذا الاتجاه أن القوّة لم تعد عسكريّة أو اقتصاديّة فقط، بل أصبحت أيضًا تكنولوجيّة وموارد، وهيمنة ثقافيّة وإعلاميّة. ومن مظاهر التفكّك في الأطر القديمة انحسار العولمة وإعادة قوانين الحماية، ونشوء التكتلات الإقليميّة بشكل متزايد (مثل الاتحاد الأوروبي، رابطة دول جنوب شرق آسيا، الاتحاد الأفريقي، بريكس) ما سيعزّز أهميّة الاتجاه نحو تحقيق التوازن بين الاعتماد المتبادل العالمي، والاكتفاء الذاتي الإقليمي. ولا شك أن عاملًا جديدًا سيفرض حضوره في عالم ما بعد هيمنة الكبار وهو السيادة التقنيّة مع التوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتجارة أشباه الموصلات، وقوّة وضعف ممكنات الأمن السيبراني. ومن هنا فقد تتغيّر مراتب قوّة الدول وتظهر قوى جديدة استنادًا إلى نصيبها في المجال الرقمي وتجارة مستلزماته، وموارده، وتطبيقاته الدفاعيّة والهجوميّة. ولعل هذا يفسّر كيف أصبحت الجهات الفاعلة هنا في الأغلب غير حكوميّة متمثّلة في الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكوميّة، وحتى الجماعات الإرهابيّة (المسيّرات، الحروب السيبرانيّة) التي مكّنتها من أن تمتلك نفوذًا تنافس فيه نفوذ الدول بل وتفاوضها. بل إن الدول الضعيفة (في مفهوم القوّة التقليدي) تركّز اليوم في بناء قوتها على الطائرات المسيرة، وامتلاك ممكنات شن الهجمات السيبرانيّة، وضخ فرق وجيوش التضليل الإعلامي لتحدي الدول الأقوى. وعلى هذا الأساس نرى كيف تتنافس الولاياتالمتحدةوالصين للهيمنة على الذكاء الاصطناعي، والصراع بينهما حول تقنيات 5G والحوسبة الكميّة، ورأينا الذعر (الشعبي) الأميركي من مظاهر انطلاق المسيرات والأجسام الطائرة (المجهولة) في سماوات بعض الولايات الأميركية في فترات معينة خلال السنوات الماضية. وهكذا ستتوزّع القوّة -مع تراجع دور التحالفات التقليديّة والقوى الكبرى المهيمنة- بين عدد أكبر من الدول والكتل الإقليميّة والجهات الفاعلة غير الحكوميّة، وتظهر التحالفات المؤقتة المرتبطة بقضايا محددة بناءً على الظروف المتغيرة والمنافع. وبطبيعة الحال سيخلق هذا الوضع الجديد حالة من عدم اليقين في مفهوم الأمن والسلم العالمي، ولكنه سيعادل مراكز القوّة والهيمنة وربما سيدفع الدول للمزيد من البحث والابتكار لتطوير الموارد وتحقيق بعض الاكتفاء، وهذا قد يُكسب الدول التي تُبادر (حتى لو كانت صغيرة) المزيد من الفرص للتأثير على الشؤون العالميّة. * قال ومضى: لا (أرى) المستقبل.. ولكني (أشاهد) من لا يستعدّون له وهم يتسوّلون على أبوابه..