منذ إعلان فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية مجددا وقضية السياسة الخارجية الأميركية في ولاية ترمب الثانية تفرض نفسها على دوائر صناعة القرار والفكر السياسي والاقتصادي في أغلب دول العالم، والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة على هذه الدوائر هو كيف سيكون العالم ومكانة الولاياتالمتحدة فيه بعد أربع سنوات جديدة من حكم ترمب الذي يستعد لتنصيبه رئيسا للولايات المتحدة في 20 يناير المقبل. وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء تحت عنوان "5 سيناريوهات لسياسة ترمب الخارجية" قال هال براندز أستاذ كرسي هنري كيسنغر في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية إن تقلبات ترمب حقيقية، رغم المبالغة في تصويره كشخص لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، ففي حين حقق ترمب تحولات سياسية مذهلة في ولايته الأولى، سواء بالانسحاب من معاهدات دولية رئيسة مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، أو بالتهديد بالانسحاب من معاهدات كانت تشكل حجر الزاوية في السياسة الأميركية بما في ذلك معاهدة حلف شمال الأطلسي "ناتو" لكن الأمر مختلف هذه المرة، حيث يدخل ترمب البيت الأبيض والعالم مليء بالحروب الساخنة والباردة والمحتملة، لدرجة أنه يمكن القول إنه يدخل مشهدا أكثر قبحاً وخطورة مما شهده أي رئيس أميركي منذ عقود. ويمكن القول إن ترمب نفسه قد لا يعرف على وجه الدقة كيف سيتعامل مع كل هذه الفوضى. لكن براندز عضو مجلس سياسة الشؤون الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأميركية يرى أن هناك خمسة سيناريوهات رئيسية للسياسة الخارجية الأميركية في عهد ترمب تستحق النظر فيها، وعناوينها هي التجديد والرفض والانشقاق وإعادة الضبط والارتباك. ففي السيناريو الأول تعهد ترمب بتجديد تاريخي لأميركا وجعلها قوة عظمى أذكى وأشد صرامة تستطيع الانتصار على كل الجبهات، في المقابل يحذر المنتقدون من أن يختار ترمب الرفض وربما الانشقاق عنوانا للسياسة الخارجية الأميركية، فيتخلى عن الزعامة الأميركية للعالم ويتعاون مع الدول المستبدة التي تهاجم العالم الذي تقوده الولاياتالمتحدة. وهناك سيناريوهان أقل تطرفا، الأول أن يتمكن ترمب من إعادة ضبط الاستراتيجية الأميركية بطريقة فوضوية لكنها مثمرة، والثاني أن يؤدي الارتباك الشامل إلى إضعاف الولاياتالمتحدة وخلق حالة فوضى عالمية أكبر. وفي حين سيتمنى أي شخص حريص على ازدهار العالم الديمقراطي السيناريوهات الأفضل، فإن أي شخص على دراية بترمب يدرك صعوبة استبعاد السيناريوهات الأسوأ. وفي السيناريو الأول قد يسعى ترمب إلى تجديد قوة الولاياتالمتحدة تحت شعار "لنجعل أميركا قوة عظمى مرة أخرى". لكنه يواجه حاليا تعهد نظيره الصيني شي جين بينغ باستعادة أمجاد الصين ومحاولات نظيره الروسي فلاديمير بوتين استعادة مكانة روسيا عالميا. ويقول ترمب إنه سيعزز قدرة الردع الأميركية من خلال إعادة بناء القوات المسلحة وإجبار حلفاء الولاياتالمتحدة على المساهمة في نفقات الدفاع المشترك. كما يقول إنه سينهي الحرب الأوكرانية بجمع الدولتين المتحاربتين على مائدة المفاوضات، وسيمنع نشوب الحروب في العالم بتأكيد أن الولاياتالمتحدة لن تتسامح مع من يشعل الحرب، وسيوقف البرنامج النووي الإيراني ويجبر المكسيك على وقف تهريب المهاجرين والمخدرات عبر حدودها إلى الولاياتالمتحدة، وسيمنع دول العالم من التخلي عن الدولار بتهديدها بالعقوبات. ورغم أن تفاصيل رسالة ترمب لجعل أميركا قوة عظمى مجددا تتغير بمرور الوقت فإن جوهرها ثابت وهو: إذا استخدمت واشنطن قوتها التي لا مثيل لها بجرأة أكبر وبقدر أكبر من الإكراه، فإنها قد تخلق حقبة جديدة من السلام والازدهار والهيمنة الأميركية. ورغم أن خبراء السياسة يحبون السخرية من هذا النوع من النهج، فإنه يستند إلى رؤية حقيقية: وهي أن القدرات الاقتصادية والعسكرية الأميركية، ومركزيتها في النظام الدولي، تمنح واشنطن نفوذاً هائلاً. لذا فإن الولاياتالمتحدة التي تتبنى موقفاً صارماً حقاً وتهدد حلفائها الذين يستفيدون من إمكانياتها مجانا بالتخلي عنهم، وتمارس ضغوطاً اقتصادية مبرحة على منافسيها، وتجعل الجميع يخمنون ما قد تفعله بعد ذلك، تستطيع بالتاكيد تحقيق المزيد من المكاسب من هذه العلاقات. وثاني سيناريوهات سياسة ترمب الخارجية يتمثل في إمكانية رفض النظام العالمي. وإذا كان ترمب قد تعهد بتجديد القوة الأميركية، فإن منتقديه يخشون من رفضه للنظام العالمي القائم. وفي هذا السيناريو قد يخرج ترمب من حلف الناتو ويسحب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية، ويخرج من اتفاقيات التجارة الدولية الحالية أو يفرض رسوما عالية على الواردات الأميركية بما يجعل هذه الاتفاقيات بلا معنى. كما يمكن أن يوقف دعم أوكرانيا، وبالطبع سيتوقف عن دعم قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وهذا السيناريو ليس مستحيلا. فمن بعض النواحي، يتطلب ببساطة تصديق ما يقوله ترمب. فقد ندد الرئيس المنتخب لفترة طويلة بالتحالفات الأميركية؛ وكتب ذات مرة أن اتفاقيات التجارة الدولية "سيئة". كما رفض استمرار دعم أوكرانيا باعتبارها حالة خيرية وتايوان باعتبارها منافساً اقتصادياً. كما تحدث خلال فترة رئاسته الأولى علنا عن التفكير في القيام بهذه الخطوات، لكن كبار مستشاريه في تلك الفترة منعوه بصورة ما عن الإقدام عليها. في المقابل فإن خيارات للمسؤولين في ولايته الثانية، بل والحزب الجمهوري ككل، جعلت الولاء الأيديولوجي والشخصي شعارات إدارته الجديدة. لذلك فإن النسخة الجديدة من الرئيس ترمب قد تحمل رؤية أشد تطرفا لشعار "أميركا أولا". وإذا حدث هذا ستكون عواقبه وخيمة. فإذا انسحبت أميركا من الشأن العالمي، فإن الفوضى والاضطرابات قد تخرج عن السيطرة. ولحسن الحظ فربما يرى ترمب أنه لا يجب المضي قدما في هذا الطريق للحفاظ على أهدافه. وفي سيناريو الانشقاق أو الارتداد، قد يضغط ترمب على كييف للقبول باتفاق سلام يعطي روسيا سيطرة على أراض أوكرانية. وقد يتخلى عن تايوان برفض الدفاع عنها في حال نشوب أزمة من الصين، مقابل الحصول على تنازلات اقتصادية من جانب الأخيرة. وكجزء من تبني استراتيجية "فرق تسد" في أوروبا، فقد يتقارب ترمب مع فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر وغيره من الحكام الشعبويين غير الليبراليين في القارة الأوروبية. وسوف يصبح ترمب، كما كان من قبل، نموذجا يحتذى به للزعماء الذين يحاكون تكتيكاته المناهضة للديمقراطية. وإذا فعل ولو نصف الأشياء التي هدد بفعلها، مثل إغلاق المنافذ الإعلامية المناوئة، وسجن المعارضين السياسيين، ونشر الجيش ضد التهديدات المحلية، فسيلحق ضررا بالغا بالمؤسسات التي تؤكد القوة الناعمة الأميركية ودعمها للديمقراطية في العالم. وعلى الرغم من بعض الكوارث التي حدثت بعد الانتخابات، فإن الولاياتالمتحدة لن تتحول إلى دولة استبدادية كاملة خلال السنوات الأربع التي سيقضيها ترمب في منصبه. ولكنها قد تتحول إلى قوة عظمى ذات ميول غير ليبرالية متزايدة في الداخل والخارج. ثم يأتي السيناريو الرابع وهو إعادة ضبط السياسة الأميركية، ولآن السيناريوهات الثلاثة السابقة دراماتيكية أو حتى ثورية، ولآن لحسن الحظ أو سوئه صعبة الحدوث فربما يحاول ترمب إعادة ضبط أو معايرة السياسة الأميركية بدلا من تدميرها أو إصلاحها. وربما يمكن القول إن ترمب حاول في رئاسته الأولى إعادة ضبط اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية، حيث انتقل من محاولة التشارك مع الصين إلى المواجهة، حتى وهو يحاول الوصول إلى صفقة كبرى خيالية معها. كما تخلى عن السياسة الأميركية الرامية إلى تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الشرق الأوسط وركز على تطبيع العلاقات مع إسرائيل وعلى الأمن الاقتصادي. وكانت كل هذه التغييرات فوضوية. وكلها غيرت استراتيجية الولاياتالمتحدة بطرق مثمرة. والحقيقة أن أيا من هذه التغييرات لن يؤدي إلى استعادة تفوق الولاياتالمتحدة بطريقة سحرية. ولكن من الممكن أن يساعد واشنطن في الاستعداد بصورة أفضل للفترة الخطيرة المقبلة. والتحدي هنا هو أن إعادة الضبط أو المعايرة تتطلب الانضباط والبراعة. وتتطلب أن تكون قادرة على إحداث قدر محدود من الاضطراب بما يكفي لخلخلة الترتيبات القديمة، من دون أن يكون الاضطراب قويا إلى الحد الذي قد يؤدي إلى تحطيمها بالكامل. وقد يكون هذا الأمر صعبا على ترمب، الذي يبدو في كثير من الأحيان مترددا بشأن ما إذا كان النظام الذي تقوده الولاياتالمتحدة يستحق الاستمرار، والذي يمكن أن تتحول سنواته الأربع المقبلة إلى فوضى شاملة. ثم يأتي السيناريو الخامس والأخير وهو الارتباك، فيكون لدينا ارتباك شامل يؤدي إلى الشلل، وإذا كان ترمب يحيط نفسه بالموالين لها حتى أن مارك روبيو المرشح وزيرا للخارجية ومايك والتز، المرشح مستشارا للأمن القومي، غيرا وجهات نظرهما بشأن أوكرانيا لكي تتفق مع وجهة نظر ترمب، وهذا لا يعني أن الولاية الثانية ستكون سلسة. والمصادر المحتملة للدراما كثيرة. سوف ينقسم مستشارو ترمب حول قضايا رئيسة: وسيصطدم الصقور تجاه إيران مثل روبيو ووالتز سوف بالمعسكر الذي يقول "لا مزيد من الحروب" مثل تولسي جابارد، التي تم اختيارها لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية. كما أن خبرات معظم المعينين من قبل ترمب في إدارة البيروقراطيات الكبيرة قليلة أو معدومة، ويبدو أنه تم اختيار بعضهم على أمل خوض حروب مع الإدارات التي يديرونها. ثم يأتي دور ترمب نفسه في هذا السيناريو باعتباره الرئيس الذي لعب قصر انتباهه وانعدام انضباطه المزمن دورًا مدمرًا في الجهود المبذولة لصياغة سياسات متماسكة باسمه. ومن المؤكد أنه لن يكون أكثر تركيزا ولا انتباها عما كان عليه الحال في 2016 وبالتالي يظل سيناريو ارتباك السياسة الخارجية في ولايته الثانية قائما. لذلك لا يملك الأميركيون ولا دول العالم إلا الانتظار لمعرفة ملامح السياسة الخارجية للرئيس ترمب عندما يبدأ تطبيقها بالفعل لآن طبيعة الرجل وأفكاره تجعل كل السيناريوهات مطروحة. ترمب قد يقوم بإعادة ضبط السياسة الأميركية