البحث سمة من يروم تحصيل أمر ما، ويبحث عنه في مظانه. ومن المفارقة أن يُبحث عن أمر يعتقد الباحث أنه لن يجده، لأنه مصروف عنه! إن من المفارقات في التراث الإسلامي أن القائلين ب «الصِرفة» في شأن الإعجاز القرآني هم أبرز من نشط للبحث عن وجوه الإعجاز القرآني، وهم «المعتزلة» (وبسبب كثير من جهودهم تولّد علم البلاغة). هذه المفارقة هي التي التفتت إليها عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ»، حين ذكرت شيوع القول بالصرفة عن المعتزلة، فالصِرفة هي صَرف عن المقدور في حال وقوع معجزة النبيّ، لا أن المعجزة في ذات الشيء؛ من حيث هي دليل (وهذا أحد التفسيرات الشائعة لمعنى الصِرفة). تقول: «ويبدو أن مثل هذا الاحتجاج للنبوة بصرف الهِمم عن معارضة القرآن، قد أوقع في شبهة أن إعجازه البلاغي غير معتبر عند من لم ينظروا إليه. وذلك ما التفت إليه أعلام المعتزلة أنفسهم، فجهدوا في تقرير وجه إعجاز فصاحته، ونظمه، وتجرّدوا للاحتجاج به». وهذه المفارقة قد تُفهم متى ما وضعت في سياقها، فسياق القول بالصرفة المنسوب إلى النظّام سياق جدل، وفي الجدل إجابات خطوات لحظية أكثر من كونها إجابات بحثية تستغرق وقتاً، وتتطلب كتابة في أحايين كثيرة، ولا يمنع ذلك أن تكون إجابات الجدل ثمرات أفكار بحثية سابقة، في حين سياق الحديث عن الإعجاز عند المعتزلة فيما بعد هو سياق «بحث»، يستغرق وقتاً، وله قراءة وكتابة ومناقشة ومفاتشة. لكن ثمة مفارقة أخرى أيضاً تزيد الإشكال وهي «علي بن عيسى الرماني»، كما جاءت بنت الشاطئ بمفارقته بين «التصريح» و»مسائل البحث»، تقول: «لم يزد في القول [أي الرماني] على أن ساقه بإيجاز مع وجوه إعجاز القرآن، قال: «وأما الصرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلّت على النبوّة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول». على حين جعل رسالته كلها «النكت في إعجاز القرآن» للحديث عن إعجازه البلاغي، باستثناء الصفحتين الأخيرتين. ويوشك أن يكون هذا هو الموقف الغالب على المتكلمين في إعجاز القرآن، ممن عدوا الصرفة وجهاً للإعجاز، ثم مضوا ينظرون في بلاغته المعجزة». إنِّ سوق هذه المفارقة ليس لذات المسألة «القول بالصِرفة»، بل للتمثيل عند النظر في موضوعات التراث وغيره، والحاجة للتحليل؛ للتمييز بين «القول المصرّح به» والاشتغال بما يعارضه أو ما لا يقتضيه. كما أنَّ التمييز بين سياقات الأقوال قد يفضي لتمييز بواعث كل قول، فضلاً عن أهمية النظر التاريخي لتبلور «المسائل»، فضلاً عن العلوم ومصطلحاتها ومناهجها.