لسنا وحدنا من نرتدي الثياب التي تعبر عن هويتنا، فحتى مبانينا تلبس ثياب هويتنا، فالمبنى جزء من البيئة وعنصر من عناصر الثقافة، وليس هناك جمادات فوق هذه الأرض لا يمكن تنطيقها بمعنى أن كل الأشياء يمكن استنطاقها وجعلها تحمل لغة، وتتبنى هوية وتوصل رسالة. قصة المباني كانت وما زالت تستوقفني وتشد انتباهي لعلاقتها بالإنسان وثقافته واحتياجه، وذائقته الفنية والهندسية، وقد أعاد تحفيز هذا الاهتمام الندوة التي أقامها ملتقى أسبار بعنوان «الهوية العمرانية للمدن السعودية». المباني قصة إنسان وبيئة وثقافة وحضارة، وهي لسان حال الإنسان والمعبرة عن أفكاره والمشيرة إلى مكانته الاجتماعية ومركزه في بعض الأحيان. لم أستطع الانفلات من سطوة تلك الندوة المكتنزة بروح التعابير الثقافية التخصصية، ولذلك لا غرابة أن أبذر من المفردات في حقل هذا المقال الكثير من فسائل المفاهيم العمرانية اللصيقة ببعض مفاهيم علم الاجتماع في بعض دلالاتها الثقافية التي تحيل إلى جزئيات أصيلة من أطروحات عالم الاجتماع العربي المسلم ابن خلدون «العمران البشري»، وهي في الوقت نفسه لا تجافي أطروحات علماء علم الاجتماع الغربي. المبنى جزء من المكان وهو جزء من الأمان الفردي والاجتماعي، ويرتبط بنظرة المجتمع إلى الحياة من حوله، وهو كذلك جزء يعبر عن قيمه وعاداته ومروءته، فالأبواب المفتوحة تحاكي قيمة الكرم، وصون حمى بيت الجار جزء من مروءة الإنسان العربي؛ ارتبط برمزية المنزل أو الخدر، وإقامة بيت كبير القبيلة دلالة على مكانة اجتماعية حددها موقع جغرافي لبيته، وتغير تصميم البيوت يحمل دلالة مرتبطة بمذهب فكري، ورؤية نقدية تربط الأدب بمفردات الحياة، فبيوت المرحلة الحداثية انفصلت عن البيئة كما فعل المذهب الأدبي، وما بعد الحداثة عاد ليعيد ترتيب الماضي في قالب الحاضر، وليعيد للحياة أشكالها التي تشكل خط ممتد واحد؛ ومع ما في هذا المصطلح من دلالات -ما بعد الحداثة- قد لا تفسر دائما بنفس المعاني إلا أن هذا لا ينفي عنه دلالته التي أوردناها. وعندما تنتقل نوافذ البيوت من حالة النوافذ الصغيرة مقارنة بحجم الجدار الذي تقام فيه إلى مساحة أكبر ليصبح حجم النافذة يحتل ربع أو نصف أو ربما يكون الجدار بأكمله عبارة عن شباك زجاجي كبير، فإن هذا مؤشر على الانتقال من حالة ترى الحياة بعين ضيقة إلى موقف مختلف يرى الحياة بعين أكثر استيعابا وأبعد نظرا. وليست ألوان المنازل بأقل دلالة وأهمية فألوان البيوت تحمل معاني ومعطيات ثقافية بيئة، وارتباط اللون بالثقافة يأتي في اللباس وفي الأواني وفي المقتنيات، وفي البيوت بصور وإحالات مختلفة، وهو في المنازل يحكي عن تصورات اجتماعية وألوان تحاكي روح المكان ودواخل الإنسان، وذائقته في طبيعة الحياة من حوله بين سماء وبحر وشجر وصحراء وكل ما تلتقطه عينه، وما تحتفي به ثقافته من تأثير جاء من خلال تثاقف عمراني بينه وبين ثقافات العالم من حوله.