تشكل ذائقة الألوان صورة مصغرة للذوق العام وللوعي الحضاري في المجتمع، إذا اتفقنا أن الوعي الآن يعني قبول مبدأ الاختلاف، وقد ظهرت دلالات للألوان وتأثيراتها منذ العصور والحضارات القديمة، حيث ظهرت تطبيقات لها لأول مرة في الحضارة الفرعونية.. فكان هناك ألوان خاصة للصلاة، التي كان يغلب عليها الأحمر بالدرجة القرمزية، والأزرق السّماوي، والأصفر الفاتح، وتم استخدامها في طلاء جدران المعابد لإعطائها رمزية وتميزًا، وبذلك بدأت تشكل فكرة أن لكل لون من الألوان رمزيته وله دلالته الخاصة به.. أما في في حضارة بلاد ما بين النهرين فقد بدأت استعمالات جديده لها، التمييز الطبقي للألوان حيث كانت تُصنّف إلى ألوان ترتديها عامة الشعب، وألوان خاصة للطبقة الحاكمة في جميع مظاهرها وممتلكاتها، في الحضارة العربية فقد غابت تلك الرمزية في تراث العرب.. لهذا تجد أن هناك موقفًا ضمنيًّا من تعدد الألوان في المجتمع، فعلى سبيل المثال يتم تحديد لون أو لونين للمنازل كما يحدث في تونس، أو الأبيض في المغرب، أو بيوت الطين في الجزيرة العربية، وقد يعني رمزياً أن هناك موقفًا ثقافيًّا ضد تعدد الأذواق، وضد التنوع في الحياة، وهو ما يبدو في غاية الوضوح في أوروبا، فاختلاف الألوان وتعدد أنواع الحياة سمة ظاهرة في المجتمع، وهو ما ساهم في بدء مدارس الفن التشكيلي. فقد تعددت وتنوعت وكثرت المذاهب والأشكال الفنية والتشكيلية في أوروبا بعد انقضاء ونهاية فترة الفن المسيحي، فسطع وظهر فن النهضة العظيم في أوائل القرن الخامس عشر، وصاحب ذلك اعتزاز وتفاخر الفنان بفرديته وموهبته وباختلاف نظرته للأشياء، بدلا من أن يكون ذائبًا في مجتمع أحادي كبير. لو بحثنا في تاريخ الفن التشكيلي بين العرب لوجدناه متطفلاً على تاريخ الفن التشكيلي الغربي، إذ لم يكن هناك أي حضارة للفن التشكيلي في تاريخ العرب، فقد صبغت الواجهات رسومًا متكررة تخلو من مختلف مظاهر التعبير، ومن خلال هذه النافذة قد نفهم تلك الذائقة الأحادية في المجتمع. الصبغة الأحادية تظهر بوضوح في موقف من الألوان في المجتمع، فاللون المفضل لدى الجميع محلياً هو البيج، الذي يعكس حالة نفسية اجتماعية مصدرها تلك الأحادية المفرطة في الرفض لكل جديد أو مختلف، وما نشاهده اليوم من رفض عند البعض للتنوع في المجتمع مصدره تلك الأحادية والمصبوغة بلون واحد وهو البيج. محاولات الإصرار على انفتاح المجتمع على مختلف الألوان، وقبول فكرة الاختلاف والتعدد، ستفتح الأبواب لظهور ذائقة جديدة تتجاوز اللون البيج، والذي جعل من المدينة امتداداً للصحراء، وبالتالي غرس التقوقع داخل فكرة واحدة ولون واحد، ولا شك أن ثمة إنجازًا حدث في المجتمع، فذائقة الاختلاف بدأت مسيرتها، لكنها ما زالت في مرحلة الجنين، وقد تحتاج إلى عقود لتنضج، وتصبح مقبولة نوعاً ما.. ما أطالب به أن تكون هناك دائرة جديدة مهمتها الخروج من سلطة تأثير اللون البيج على العقول، ومفتاح التغيير يبدأ بفرض ذائقة جديدة على مباني المدينة وشوارعها، واستخدام الألوان الطبيعية وغير المشتقة من ألوان الطيف الصحراوي..، سيكون لها تأثير غير مباشر على العقول، وسينتج عنه فتح آفاق جديدة للنظر بعين مختلفة إلى مختلف الألوان، وبالتالي احترام ذائقة الاختلاف في المجتمع.