عاش المجتمع السعودي وهو يمنح أولوية كبرى للعلوم الأدبية والشرعية، وكانت تسير بطريقة متناغمة؛ حيث نقرؤها في التعليم ونسمعها في الندوات والمؤتمرات، ونرى أسماء رموزها على لوحات أسماء الشوارع والقاعات الجامعية، وأصبحت تمثل «خطابًا» موجهًا للسلوك، ومن ثم حفّزت الأجيال للتوجه لهذه التخصصات، وأصبح الأديب والشاعر ورجل الدين سمة المجتمع ومعيارًا للتميز والنخبوية الثقافية والاجتماعية. وفي السنوات الأخيرة تغيرت قوانين المنظومة؛ حيث أصبح التوجه للعلوم العلمية والطبية، وبرز مفكرون سعوديون في الاقتصاد والطب والعلوم، وهم امتداد لرواد المفكرين السعوديين منذ السبعينيات. ولكن لم يتواكب مع هذا التغير تكريم العقول التي لها إنجازات بارزة في مجالها ولديها عزوف إعلامي، من خلال إدراج إنجازاتهم في التعليم العام وتسمية الشوارع وقاعات المؤتمرات والجوائز بأسمائهم؛ لإبراز سيرهم الذاتية ومنجزاتهم الوطنية والعلمية. وكان من نتائج هذا الفارق الروحي في المجتمع أنه لم يعد في المجتمع رموز دينية ولا ثقافية، ولا رموز علمية وطبية واقتصادية، يمكن أن تكون قدوة نجاح للأجيال. والهوية الثقافية السعودية تسير بمجموعة دوائر، ويفترض أن تكون الدوائر متداخلة بحيث تسير بتجانس وسرعة ثابتة، وإذا سارت دائرة علمية أو تنموية بمعدل أسرع أو أبطأ من المنظومة فإن المنظومة كلها ستتأثر، ونحاول هنا إعادة تشخيص جانب ضئيل، ولكنه مهم من الواقع الاجتماعي للإسهام في انطلاق مؤسستي التعليم والبلديات فلسفيًا. فقد اعتادت مؤسسات التعليم والبلدية غالبًا على تكريم العقول الأدبية والشرعية، بتسمية شوارع وقاعات بأسمائهم وتدريس سيرة حياتهم، وهذا اتجاه مهم في تعزيز الهوية الثقافية، ولكن من المهم أن يواكب التعليم والبلديات الهوية الثقافية الجديدة التي أعادت أهمية التخصصات العلمية والطبية بعد عقود طويلة من إقصائها من الحياة العامة. وتبدو مظاهر الأزمة في التالي: الأول: يحظى التعليم العام بنصيب وافر وزاخر من ترميز الشخصيات السعودية في مجالات العلوم الشرعية والأدبية ومشاهير المسؤولين، ومؤخرًا دخلت رموز الرياضة في التعليم، ونجد بعض ملامح هذا التكريم والاحتفاء في أسماء شوارع المدن الرئيسة وقاعات المؤتمرات. لكن في المقابل نجد أن التعليم الجامعي يخفّض من أهمية التخصصات الشرعية والأدبية، بحجة أنها لا تخدم متطلبات سوق العمل، ولهذا يتشكل وعي الطالب في التعليم العام بأسلوب أدبي، ثم يتعرض للضغط للتوجه نحو تخصصات اقتصادية وعلمية وتقنية، لا يتذكر رموزها العلمية، ثم يجد أن أهمية الرموز الأدبية والشرعية لا تتجاوز الهوية الاجتماعية خارج إطار نماذج الإنجازات العلمية التي يتطلع إليها الأجيال الجديدة. وهذا التضاد في فهم فلسفة التعليم ينطوي على مشكلات كبيرة في عدم التجانس الرباعي المتكون من: قيم الأسرة، ومخرجات التعليم العام، ومدخلات التعليم الجامعي، مع متطلبات سوق العمل. سوف أضرب مثالًا توضيحيًا: يدرس طالب التعليم العام رموز الوطن في الأدب واللغة والتاريخ والعلوم الشرعية والرياضة، ثم يرى أسماء بعضهم تزين شوارع مدينته وقاعات المؤتمرات، ثم يكبر وهو متعلق بهم ومحب لإنجازاتهم، وتنشأ لديه الرغبة في أن يكون مثلهم، فإذا تخرج من التعليم العام وأراد التخصص في المجالات التي تعرف عليها في المراحل المتوسطة والثانوية، قيل له: هذه التخصصات مغلقة لأنها لا تخدم سوق العمل!! وذلك بسبب تقليص القبول في التخصصات الأدبية والاجتماعية وإغلاق بعضها. وكان الأجدر أن يدرس الطالب سيرا ذاتية ومنجزات لكفاءات سعودية في التخصصات التي ترغب سياسات التعليم أن يتجه لها الطالب في الجامعة. الثاني: يركز التعليم مع البلدية في تسمية بعض الشوارع الرئيسة على إبراز علماء مسلمين في الطب والعلوم والفلسفة مثل: ابن سينا والفارابي والكندي، وهذا اتجاه مهم، ولكن الصورة الذهنية المترسبة ثقافيًا جعلت منهم زنادقة، وحذّرت من علومهم، مما يتطلب إعادة بناء صورتهم الذهنية وتنقيتها مما علق بها من وصم غير دقيق. الثالث: يعرف طالب التعليم العام السعودي معلومات عن الشخصيات التاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي والمظفر قطز أكثر مما يعرفون عن الشخصيات القيادية في الدولة السعودية الأولى والثانية؛ ودراسة السير التاريخية القريبة من الطالب ستكون أكثر تأثيرًا في حياته من دراسة شخصيات عالمية أو تاريخية بعيدة عن روح المجتمع. وسبق أن حللت شخصية الإمام عبدالعزيز بن محمد بوصفه أهم قائد فكر في «الهجوم الدفاعي» للتخلص من أزمة الجيوبوليتيك النجدي، وحللت شخصية الإمام تركي بن عبدالله بوصفه حقق «الحدث الشارد» بعودة الدولة السعودية بعد سقوط الدرعية، وهي تؤكد على أهمية دراسة الشخصيات العظيمة في سياقات كبيرة تلامس الإنسان العادي وتفسر له مكامن التفكير السياسي العميق. وتكمن فلسفة التعليم في تحقيق الهوية الاجتماعية، فهذه مهمتها الأساسية، وليست تحقيق أهداف سوق العمل؛ لأن سوق العمل في الغالب غير ناضج وسريع التغير، وما يزال كثير منه يعمل تحت فكرة «الراكب المجاني»، وهو لقب تطلقه الدول الصناعية الكبرى على الدول الأقل نموًا صناعيًا، ويقصد به استنساخ صناعات موجودة فعلًا، ولكن بجودة أقل وسعر أقل، وليس لديها ميزانيات كبيرة للدراسات والاختراعات واستقطاب العلماء، كما أن سوق العمل يستقطب تخصصات العلوم والكيمياء من بلدان عربية لديها القابلية للعمل في مصانع برواتب أقل. ومن ثم فإن الرهان على الراكب المجاني يحمل في طياته مخاطرة النزول في منتصف الطريق؛ لأن كثيرا من أسواق العمل غير جاهزة لأي تحولات جديدة يمكن أن تغير مسار الاقتصاد، ما عدا منشآت عملاقة قليلة مثل: أرامكو وسابك والهيئة الملكية للجبيل وينبع وما في مستواها. عند الانتقال إلى الفكرة المقترحة هنا، فإنه يمكن القول إن من تقاليد كثير من الدول أن تخلّد أسماء الشخصيات البارزة في مجتمعاتها في العلوم والطب والاقتصاد والعسكرية والأمن، ذات المنجزات والتأثير الإيجابي بعدد من الوسائل، منها إدراج التعريف بهم وبمنجزاتهم في مناهج التعليم العام، وتسمية القاعات العلمية وبعض الشوارع بأسمائهم، وإبرازها في المبادرات الثقافية والفنية، من أجل إحياء ذكراهم والاعتراف لهم بالفضل، ولتكون نموذجًا يحتذى لطالب التعليم العام. وهذا يدعو لأهمية التفكير الجاد في تكريم العقل الطبي والعقل العلمي والعقل الاقتصادي والإداري والعسكري والأمني وغيرهم من الذين قدموا إسهامات وطنية كبيرة، وأفنوا حياتهم في معامل العلم والعمل، فكانوا قامات تستحق التكريم، ودور التعليم وأمانات المناطق تعريف العامة بهم. والذي يمكن أن أقترحه في هذا المجال هو طلب تصميم منهجية جديدة لتكريم العقول التي تنجز بلا ضجيج، بحيث تجد سيرهم الذاتية طريقها لمناهج التعليم، وقاعات المؤتمرات، وتخصيص جوائز تحمل أسماءهم، وإطلاق أسمائهم على بعض الشوارع، ويكون لكل اسم معايير واضحة وشفافة، وتشمل تكريم جميع العقول المنتجة التي خدمت الوطن. ومعظم البارزين السعوديين غير المشاهير لا يمكن التعرف عليهم إلا بالبحث الموجه، وأنا وإن كنت أعرف البعض منهم مثل: الدكتور محمد السبيل، عراب جراحة الكبد، ومحمد الفقيه، عراب جراحة القلب، ومن رجالات الاقتصاد الذين أسهموا في صناعة القرار السياسي والاقتصادي في مراحل تاريخية مهمة، أو قدموا منتجات فكرية في الاقتصاد مثل: محسون بهجت جلال، رائد التنمية الصناعية، وحمد السياري، أول سعودي يرأس الصندوق الصناعي ومعيد اكتشاف البنك المركزي، وجماز السحيمي، عراب الأنظمة المصرفية والتقنية المالية ومعيد اكتشاف سوق المال والمعهد المصرفي. وكذلك عبدالله القويز، أحد أهم مئة اقتصادي عالمي، وغيرهم كثير. إضافة إلى القادة العسكريين والأمنيين الذين كتبوا سيرتهم الذاتية في ميدان الحروب أو الأمن، ممن يستحقون أن يعرف الناس إسهاماتهم الوطنية في مجالاتهم المختلفة، الأمر الذي يتطلب بحثا متعمقًا للتعريف بهم وإبراز مساهماتهم الحيوية. وقد برزت أجيال جديدة من رواد العلم والاقتصاد والطب، مما يؤكد أن السعودية ولّادة للكفاءات الجديرة بالتكريم المستمر. وجزء من تشخيص الأزمة يكمن في أن رؤية 2030 تسير بمعدل أسرع من فهم التعليم والبلديات العميق لفلسفتها، مكتفية بتنفيذ ما يطلب منها، وما يزال التعليم والبلديات يسير خلف رغبة الجماهير في جوانب من عملها، وهي رغبات عاطفية وآنية، ولا تحتكم إلى معايير، فالتأثر بالضجيج الآني ليس من فكر القادة. وهذا يعني ضرورة أن تتغير فلسفة التعليم والبلديات من ضيق التخصصات والركون إلى الشهرة، إلى رحابة الإسهامات وجوهرها، ومن قصر الهوية الوطنية على تخصصات شرعية وأدبية إلى إفساح المجال لتخصصات أخرى لا تقل أهمية عن التخصصات سالفة الذكر. يواجه التعليم اليوم تحديات جديدة؛ لوجود منافسات أكثر جاذبية وأسرع دخلًا ماليًا بأقل جهد، مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي، وصارت هذه التطبيقات تهيمن على هوية الأجيال وتزودهم بالرموز الاجتماعية، وتستحوذ على أكبر قدر من الساعات في اليوم، وقد كانت هذه مهمة التعليم في السابق. وهذا يعني أهمية «إعادة إنتاج التعليم» وحضوره القوي في المشهد ومواكبًا لتصميم مناهجه وفقًا للواقع الاجتماعي. د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير