حكاية الحب الساحرة والساخرة في تفاصيلها ومواقفها العفوية اللذيذة بين سليمان وسمر، ربما هي التي أشعلت شرارة رواية «الأفق الأعلى» في ذهن الكاتبة فاطمة عبدالحميد، وهي حكاية الحب الفنانة والخجولة والماكرة، في مشاهدها الممتعة التي أعادتنا إلى حياة سليمان الماضية. صدرت هذه الرواية السعودية عن دار مسكلياني التونسية في 230 صفحة من ثمانية فصول، ووصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية العام 2023. رواية مكتوبة بهدوء وبلغة أدبية فنية رفيعة وبسيطة بلا تعقيد أو تكلف، فيها مشاعر إنسانية عالية برؤية فلسفية ماهرة في رصد التفاصيل الصغيرة والمشاعر العميقة لشخوص الرواية، وذلك ضمن مشاهد فكاهية ساخرة، تظلل أجواء الرواية من أولها إلى آخرها، وتمنحها هذا الجو الحيوي الاجتماعي الممتع، حس إنساني مشحون بعاطفة ساحرة خصوصاً ما بين سليمان وسمر، مع سخريات عفوية وذكية داخل المواقف الجادة في مختلف المشاهد، ما أعطى العمل روحاً حيوية جذابة، تسحبنا دون ملل إلى نهاية الرواية، ربما بسبب أن الرواية خلت من الأحمال الزائدة، خلت من الكتابة الإنشائية ومن كل ما يعرفه القارئ، وأبقت الكاتبة على الذي لا نعرفه، فجاءت بدون زوائد إنشائية مملة تعودنا عليها في روايات كثيرة، ما عدا بعض العبارات القليلة في بعض المشاهد. حكاية الحب هذه أعادتنا إلى حياة سليمان الماضية، زواجه الإجباري من نبيلة حين كان صغيراً وإنجابه منها ثلاثة أولاد، ومن ثم وفاة زوجته وتوالي صور مراسم الدفن والعزاء، وهي حياته التي نهضت على موضوع فكاهي ساخر ولذيذ وعلى انقلاب اجتماعي، حين عرفنا أن هذا البطل سليمان أجبرته والدته على الزواج من فتاة أكبر منه، هو كان في الثالثة عشر من عمره وكانت زوجته نبيلة في الرابعة والعشرين من عمرها، عكس ما كنا معتادين عليه، وهو إجبار الفتاة الصغيرة على الزواج من رجل يكبرها كثيراً، لتهرب منه في الغالب ويذهب هو إلى ساحرة تدعّي قدرتها على إحضار الحبيبة الهاربة، لكن سليمان لم يهرب من بيت الزوجية لأنه بيت والدته التي تسكن معهم فيه، ولهذا بدأت الزوجة تلاحق زوجها الولد الصغير، الذي يتمنع ويهرب منها ليلعب مع أصحابه في الشارع كرة القدم التي يعشقها من طفولته. ربما ركزت أغلب المراجعات النقدية لهذه الرواية، على هذه النقطة التي كانت قاعدة الحكاية ولم تكن جوهرها، عقود طويلة ونحن نقرأ عن الولد الكبير الذي يلاحق زوجته الصغيرة وهي تتمنع. وإذا كانت هذه الرواية قلبت المعادلة التقليدية الموضوعية وقدمت حكاية جديدة، فإن ما يلفت أكثر ويبهجنا كقراء، هو المستوى الفني العالي للرواية، الأسلوب الحيوي واللغة الرفيعة بلا تكلف وبلا نبرة صوت عالية ومباشرة وإنشائية مملة. هذا الأسلوب الحديث أعطى النص قيمة فنية واضحة، وسحبنا في مشاهد الرواية بكل سلاسة وعذوبة وجمال. هذه التفاصيل الصغيرة والملاحظات الدقيقة، وهي ترصد عمق المشاعر لشخوص الرواية، هو ما أعطى هذه الرواية خصوصيتها وتميزها وبصمتها، وجعلها لا تشبه إلا ذاتها وهذا هو الإبداع والتجديد. سليمان متورط في هذه التفاصيل الصغيرة، خصوصاً أنه لا يعرف كيف يدبر أموره في البيت: (لكن الحقيقة هي أن طريقته في تفتيش العلب الصغيرة المتشابهة، في اللون والحجم بحثاً عن البن، لا يمكن أن توصف بالماهرة، إذ يبدو أنه كرر فتح بعض العلب أكثر من مرة دون أن يلحظ ذلك). وهو المواطن المرتبك والذي يشعر دائماً أنه مراقب وموضع مراقبة وربما اضطهاد من والدته ومن زوجته: (حين عاد إلى المطبخ لم تكن رائحة الغاز قد تسربت بشكل حاد، ومع ذلك لام نفسه على الابتعاد عن الركوة، كما فاجأه صوت أمه الذي حضر ليرصد أخطاءه وينتقدها كعادتها). يحضر ملك الموت في بعض الأحيان، في فصول الرواية، مثل صوت له صدى مثير ورهيب، فهو الراوي وربما هو ليس ضمير المتكلم: (وظيفتي الأزلية تتمثل في نقلكم من هنا إلى هناك). (أما أنت فإذا انتهت بك الحال واقفاً على تراب مقبرة فلا تهلع، فالدفن فعل طبيعي يرافق حتى الأحياء منكم. استبطن نفسك مثلاً. أخبرني الآن كم قبراً وجدتَ في داخلك). بعد وفاة زوجته نبيلة انكشفت أمامه مشاعرية العارية في لحظات العزاء، انكشفت مشاعرة المحايدة، في حالة ليس فيها مجال للحياد: (بدا له وهو المحب العريق لكرة القدم أنه يحضر حفل اعتزالها الحياة، لكنه سرعان ما هش الأفكار الكروية من رأسه فليس هذا وقتها بكل تأكيد، كان يمضغ اللبان مستكة تستطيع أن تميزه من رائحة أنفاسه حالما تقترب منه لتعزيه). وفي مشهد يتكرر في الرواية كثيراً ويكشف لنا قدرات الكاتبة فاطمة عبدالحميد ومهارتها في رصد التفاصيل الصغيرة والمشاعر العميقة بلغة ممتعة: (أراد يوم دفن السيدة نبيلة أن يتقدم أكثر ليجاور أبناءه ويواسيهم، لكنه سرعان ما تراجع، إذ تذكر أنه لم يذرف دمعة واحدة يسدد بها ثمن العشرة الطويلة على الأقل، ومن ثم قد لا تؤخذ مواساته على محمل الجد). ويتجلى سحر المشاهد في هذه الرواية حين نقترب من الجو الماكر والرومانسي القلق بين سليمان وسمر، وكأنهما في حالة مطاردة صغيرة في منطقة ضيقة: (بينما شكل لون المانجو الذي طليت به جدران مطبخها خلفية جعلت إضاءته تبدو في نظره أكثر خفوتاً من إضاءة أي مطبخ رآه من قبل، أو ربما خيل إليه ذلك لأن مستوى صوت الأغنية انخفض عما كان عليه فشبه له أن الضوء قد خفت أيضاً). يراها في منطقة ضيقة ومحصورة داخل العمارة من نافذة أو منور وبينهما زقاق ضيق، كأنه يراها لأول مرة، فيبدو كأنه مع سمر، يلونان المشهد بريشة رسم فاتنة: (لا شك أنها أربعينية وإن بدت في عينيه أصغر من ذلك، حالما رأته بحدق إليها انسحبت بخفة ريشة، مخلفة ظلال حركة يدها واضحة خلف ستارة مطبخها البيضاء الشفافة، ظلت عيناه متعلقتين بما خلف الستارة، وكأنه ينتظر أن تخرج له أرنباً من قبعة سوداء ليصفق لها، فتمكن من تحديد شكل قوامها الممتلئ وسواعدها البضة وقامتها الأشبه بقصر). تتواصل مثل هذه المشاهد العاطفية اللذيذة، في محاولة صناعة علاقة من شرفة مطبخ غادره ناسه، ولم يتبقَ فيه سوى ارتباكاته وقلقه، وحياة جديدة فارغة بحاجة الى أناس جدد، بحث بشدة عن أي شيء قد يصلح نواة لحديث ما، ثم حين أخفق اعتذر وهو لا يعلم عن أي شيء اعتذر، لكنه وجد الأمر ضرورياً من باب اللباقة على الأقل. آسف.. آسف، قالها مرتين وهو يلتصق بشرفة مطبخه، حتى ليبدو للرائي البعيد أنه يحاول السقوط في ذلك الزقاق الضيق الذي يفصل بينهما، وكان على وشك أن يقتنع بأنه ليس لتلك المرأة الجامدة في مكانها مشاعر يمكن إيذاؤها). يقترب منها في كل وقت أكثر، يقترب بلهفة من يريد أن يعوض سنوات ضائعة من عمره، يبحث معها عن حياة أخرى، يحكي لها عن همومه وظروفه وضياعه، تبادلا النظرات الماكرة المحبة بصمت، ثم قالت وهي تمسح دموعها وترفع شعرها عالياً لتضمه على شكل قبضة كف أعلى رأسها: (يبدو أن هذا البيت يستحق الزيارة يا جار. كان كلامها كما عهده صريحاً ومبهماً حلواً وساخراً لذلك قرر مجاراة أسلوبها حين قال: سأفوت الكون كله إن لزم الأمر ولن أفوت اللحظة التي تزورين فيها هذا البيت يا جارة). خصوصية هذا العمل تتضح لنا بجلاء، ليس في موضوعه وحكاياته ومشاهدة المتنوعة والممتعة فقط، ولكن في أسلوبه الحديث ولغته العذبة التي تؤكد لنا أن الأدب لغة. عمل مبدع تتضح فيه السمات الروائية الحديثة، في أجواء إنسانية شعرية وجدانية فلسفية وتصويرية، قادرة على كشف هواجس النفس الداخلية وأحلامها وأسئلتها لشخوص الرواية، في حين يقف لكل هؤلاء الشخوص، مدير الموت عند كل ركن أو زاوية: (ستجدني يوماً ما أنتظرك أمام الباب الخلفي لأعيدك إلى باطن الأرض التي تمشي فوقها. فكل خطوة تخطوها ستكون دائماً باتجاهي مهما بالغت في الحذر أو الخوف لذلك عليك أن تتعجل في سير يشبه القفز، عليك أن تضع حبكة مثيرة لقصتك). فهد العتيق