ما هي حكايتك؟ ما هي هويّتك؟ مَن أنت؟ يبدو أنّ السؤال عن الحكاية هو سؤال عن الهويّة بمعنى ما، وأنّ سؤال الحكاية هو سؤال الهويّة، سؤال الذات والآخر. حين تحكي حكايتك فإنّك تكشف عن هويّتك، عمّا تسعى ذاتك لتأجيل البوح به، أو تخبّئه كزاد للزمن المقبل. حكايات الناس وقود لشتاءاتهم المقبلة. "احكِ لي حكايتك...» طلب يتضمّن الكشف عن أسرارك، عمّا يعترك في روحك ويجيش في صدرك ولا تصرّح به لغيرك، وحين تقرّر الإفصاح عنه، والإدلاء به، تكون قد وضعت ما ظللت تتكتّم عليه تحت مجهر القراءة والتأويل، قراءة الآخر الذي لن يبحث في ما وراء الحكاية فقط، بل قد يبحر في خيوطها المعلنة والخفيّة التي قد تكون متقاطعة مع خيوط حكايته؛ حياته، بصيغة ما. درج الروائيّون على تدبيج الحكايات ونسجها وتحبيك خيوطها وتفاصيلها، أي يضطلعون بأسرار الكتابة والحكاية، ولا ينفكّون يقتحمون غمارها رواية بعد أخرى، يلوذون بالخيال ليكون معبرهم إلى حكاياتهم وواقعهم، لكن في «حكاية الرواية الأولى» يكون اللجوء إلى الذاكرة، وتقصّي بعض المخبوء في خطوة البدايات، تلك التي لا تخلو من مشقّة ومغامرة وروعة في الوقت نفسه. لا يحتاج الروائيّ إلى التخييل في توثيق حكاية روايته الأولى لتكون شاهدة، كاشفة، وربّما فاضحة، لبعض أسراره، لأنّه يعود ببساطة إلى ذاك الشخص الذي كانه، ذاك المتردّد في خطوه الأدبيّ، الباحث عن موطئ كلمة له في ميدان غير مقيّد بحدود أو قيود، عالم فضاؤه الحرّيّة والإبداع، ويكون محمّلاً بمسؤوليّة تاريخيّة، لأنّه سيكون مرسال الحاضر إلى المستقبل، مرسال الأمس إلى حاضره، وقلمه المدوّن للتفاصيل والأسرار والوقائع والمستجدّات، وحتّى المتخيّل منها ينطلق من نقاط وجذور وبؤر واقعيّة. قد يداور الروائيّ في نثر شخصيّته على شخصيّات أعماله، يرسم مصائرها التي قد لا توافق هوى قرّائه، لكنّه لن يلجأ إلى المداورة في تدوين حكاية روايته الأولى، لأنّها جواز مروره إلى تاريخه وذاكرته، والروائي يكون مقتفي أثر ذاته إلى ذاكرته. ليس بالضرورة أن تكون الرواية الأولى للكاتب هي تلك التي تحمل الرقم واحد في تاريخ نشرها، بل قد تكون تلك الرواية الضائعة منه، أو تلك التي لم يتفرّغ بعد لكتابتها وتوثيقها ولا يزال يحلم بها، كما قد تكون تلك التي دفعته إلى كتابة روايته الأولى المنشورة، وربّما في أرشيف كلّ روائيّ بذور عدد من الحكايات المتزامنة التي تتنافس لتحظى بلقب الأولى، لكنّها تؤثر جمالية العتمة ولذّة الخفاء والتواري بانتظار فتح صندوق الذاكرة وتحريرها من جمالياتها ولذائذها لتمنح بعضاً منها للمتلقّين والقرّاء. لكلّ امرئ حكاياته الكثيرة، المثيرة، الغرائبيّة، الساحرة، وأسراره التي تشكّل وقود الذاكرة، وتؤمّن مواساة لصاحبها، ومن الطبيعيّ أن تكون تلك الحكايات وما تشتمل عليه من أسرار مفاتيح للإبداع والاكتشاف. الروائيّون سفراء الخيال إلى الواقع وموفدو الواقع إلى الخيال في الوقت نفسه، يمضون في طريق ذي اتّجاهين. يعملون على كشف درر الأعماق المخبوءة في داخل الإنسان، يمضون لتجميل الحياة الإنسانيّة بالأدب، لا يقفون عند حدود أو قيود في كشفهم وتعريتهم وتوثيقهم وسردهم وتخييلهم، يبتدعون عوالمهم التي قد تنافس الواقع في تفاصيله ومصادفاته الدائمة. السرّ يكمن في الحكاية دوماً. سواء انطلقنا من فكرة أنّ الرواية تتمحور حول فكرة: كيف تحكي حكاية؟! أو هل الرواية هي فقط حكاية؟! ابحث عن الحكاية وفيها. لا يخفى أنّ كيفيّة حكاية الحكاية لا تقلّ أهمّيّة عن الحكاية نفسها، والروائيّ حكّاء صامت، يستعير صوت الحكّاء ليوظّفه في ترسيم حدود العوالم التي يرسمها وينسجها، والتطبيع بين النقائض التي يلتقطها من الحياة نفسها وينقل جزءاً منها إلى عمله. كما لا يخفى أنّه لولا الحكاية لظلّ جهد الروائيّ كلّه سابحاً في هلام ينشد وصالاً مع خيط من خيوط الحكاية. يسعى الروائيّ إلى عقد مصالحة مفترضة بين صخب العوالم التي يرسمها، يؤالف بينها بطريقته الأدبيّة، يهدئ عنف الدوخل من خلال تظهير مشاهد قارّة في النفس تعصى على البوح والاعتراف، يلعب دور الغوّاص في مجاهل التاريخ والحاضر والمستقبل، في مجاهل النفس البشريّة التي تظلّ البوصلة والملاذ. ثلاثون روائيّاً وروائيّة من عدد من الدول العربيّة يكتبون حكايات رواياتهم الأولى؛ حكايات الجمال والشقاء والأمل والحنين، حكايات الحبّ والصراخ والتجريب. يتذكّرون ليذكّروا بما كان وما صار، وبجزء ممّا يتأمّلون أن تفضي إليه في زمن قادم على اعتبار أنّ الكلمة لا تقف عند حدود زمان أو مكان، بل تكمل رحلتها بمعزل عن أصحابها وحضورهم. هي الحاضرة دوماً على رغم غياب أصحابها. والحكايات هي الكلمات الحاضرة رغماً عن أنف الزمن والغياب. في «حكاية الرواية الأولى» روائيّون وروائيّات حقّقوا نجاحات في عالم الإبداع الروائيّ، وآخرون سائرون على درب الإبداع باحثين عن دروبهم في هذا العالم المفعم بالمفاجآت المدهشة، بالموازاة مع الصدمات والهزائم الصغيرة الرابضة على مفترقات النجاح والإبداع. «حكاية الرواية الأولى» إطلالة على عالم الروائيّين الحميميّ، نافذة يحكي فيها الروائيّون حكايات رواياتهم الأولى، ما صاحبها من مغامرة، شغف، متعة، مشقّة، تحدٍّ، صراع، إرادة، مكابدة، ومصابرة. وكيف أنّها شكّلت عتبة دخولهم إلى عالم الرواية الساحر، ليؤثّثوا معمارهم الروائيّ، ويبلوروا هويّاتهم السرديّة الحكائيّة في هذا العالم الثريّ. زاوية نعود فيها مع الروائيّين إلى بهجة البدايات، وتحدّي العوائق، والقرار بالانطلاق، عساها تشكّل شرارة انطلاق بدورها للساعين إلى كتابة رواياتهم الأولى، أولئك الذين ستكون لهم حكاياتهم المختلفة، التي سيحكونها بشغف ومتعة أيضاً. وقد تمّ ترتيب الحكايات في الكتاب وفقاً للترتيب الأبجديّ لأسماء المؤلّفين. لأنّ سؤال الحكاية يقترب من سؤال الهويّة، من سؤال الكشف والإعلان، فإنّه يكاد يستعصي على بعض الخائفين الذين يعيشون مخاوفهم حكاياتهم، ويبقونها طيّ الكتمان، تكون تلك الحكايات وحوشاً تنهش دواخلهم، ولن يستدلّوا على أيّ سبيل للتحرّر سوى بالكتابة والبوح. الذات في الحكاية تحاور نفسها، ماضيها، ذاكرتها، تؤجّج نيران الحكاية لتنير بها دروبها إلى الآخرين وحكاياتهم؛ هويّاته، شخصيّاتهم، آمالهم وأحلامهم ومخاوفهم بدورها... هل الإنسان إلّا حكاية؟! هل الكاتب إلّا حكاياته التي تبني شخصيّته وتوجّهه في هذا الاتّجاه أو ذاك؟ فلنقرأ الحكايات ولنكتشف شخصيّات أصحابها. * مقدمة كتاب «حكاية الرواية الأولى»، منشورات قنديل، دبي، 2017. يضم الكتاب شهادات من روائيين عرب حول روايتهم الأولى وهنا تكمن فرادة هذا الكتاب وأهميته ومن الروائيين المشاركين: وجدي الأهدل، فواز حداد، ليانة بدر، هيفاء بيطار، إبراهيم الحجري، إسماعيل يبرر، بدر أحمد علي، حلال برجس، جورج يرق، حجي حابر، دنى غالي، رزان نعيم المغربي، زكريا عبد الجواد، سليمان المعمري، عاطف أبو سيف، عبد القادر مسلم، عبد الهادي سعدون، عبد الهادي سعدون، طارق بكاري، عماد البليك، ناتالي الخوري غريب، ميادة خليل وسواهم.