رأيت كافكا وأنا أمشي في شوارع قريبة من بيته القديم، مشيت في شوارع وحارات ومقاهي مجاورة لبيته، دخلت عميقا في براغ، قريبا من الحياة اليومية لأهلها، رأيت وجه كافكا في وجوه كثيرة، رأيته في وجوه الرجال والنساء والأطفال التشيك، مشيت في الدروب الصغيرة المقابلة لبيته القديم، ثم ذهبت إلى ساحة البلدة القديمة، وهنا مكان عمله مرورا بمنزل أخته، حيث سكن فيه معها حوالي العامين أثناء الحرب العالمية الأولى، هي دروب كافكا ودروب وشوارع وحارات الكاتب التشيكي الكبير بوهوميل هرامال أيضا. شعرت في هذا المكان أني أشم رائحة عميقة، كأنها رائحة خشب مظلم وقديم، وهو الجزء القديم من مدينة تاريخية يسمونها: براها، هكذا يسميها الشعب التشيكي الذي أنجب كافكا في العام 1883 وفقده في العام 1924؛ لتحل الذكرى المئوية لوفاته هذا العام 2024، تسمى بالتشيكية Praha، براها، عاصمة جمهورية التشيك وأكبر مدنها، تقع على نهر فلتافا في وسط منطقة بوهيميا التاريخية، لم تدمر المدينة بشكل كبير في الحرب العالمية الثانية بخلاف الكثير من مدن أوروبا وحافظت على شكلها الجميل. إذا سألت في حارته وفي الشوارع القريبة، عن كافكا، أو عن بيته، يعطيك المواطن التشيكي أو المواطنة التشيكية إشارة اتفاق مع ابتسامة إعجاب متحمسة، ويشير لك على بيت كافكا في المدينة القديمة، أو على متحفه قرب جسر تشارلز، يقول لك: أستطيع إيصالك، وكأنهم بلا عمل وبلا مواعيد، وهذه المشاعر الإنسانية والثقافية العالية عند التشيك لا تقابلها كثيرا في مدن أوروبا، وفي الغالب سوف يعيد لك حكاية معروفة ومتكررة أنه تم بيع بيته بعد وفاته، وصار مكانه هذه العمارة الصغيرة، وأمامها وضعوا نموذجا لبيت كافكا، ووضعوا له أيضا متحفا مبدعا قريبا عند النهر، يدخله السياح طوال أيام العام. حين تدخل بيت أو متحف كافكا سوف تجد كتبه بمختلف اللغات، وتجد أفلاما عن حياته، وصورا قديمة عن حارات وشوارع مدينة براها القديمة، التي مشى فيها كافكا، وفي المتحف تجد كتيبا صغيرا تضمن مشاهد من قصص وروايات كافكا الفكاهي الساخر، سوف تجد لحظة فكاهية ساخرة، سوف تجد متعة وأنت تسير في دروب تشعر أنها لم تكن مصنوعة أو مخطط لها من قبل، كتابة عفو اللحظة المتمردة والقلقة والمرحة، وحوارات كأنها تحدث أمامك بسخريتها المضحكة وقلقها من السلوكيات والتصرفات المملة في الشارع والعمل. وإذا كانت قصص وروايات الكاتب التشيكي العالمي كافكا متهمة بالكابوسية، كما يكتب كثير من النقاد بمبالغة نقدية، فإنهم يغفلون الجانب الفكاهي المرح والكوميدي الساخر في كثير من حكايات ومواقف وحوارات أعماله الأدبية العميقة والمدهشة والممتعة، وفي كثير من مشاهد رواياته وقصصه مثل الحكم والمحاكمة والقلعة وغيرها، وهذه السمة نجدها أيضا في الأعمال الأدبية لأستاذه الكاتب التشيكي الكبير بوهوميل هرامال صاحب رواية «قطارات الحراسة المشددة»، هذه الرواية بضمير المتكلم اللطيف والمرح: هرما ميلوش، الموظف في محطة قطارات، وهي محطة يربي رئيسها الحمام في سطحها ويستقبل صديقاته أيضا في السطح لرؤية الحمام. كانت خطوات رئيس المحطة تسمع وهو يهبط السلم، فأنزل السيد هوبيكا نعليه عن الطاولة ونهض. دخل الرئيس مرتديا بزته القديمة، كان بالتأكيد في طريقه إلى برج الحمام لتنظيفه، بنطاله أبيض لكثرة ما غطاه روث الحمام وكذلك الكمان، الكاتب التشيكي الكبير بوهو ميل هرابال كتب هذه الرواية بمزاج ساخر رفيع الأدب والقيمة والإبداع. مشاهد هذه الرواية وتفاصيلها الصغيرة مازالت راسخة في ذهني مثل صدى موسيقى أو أغنية لا تفارق الذاكرة، لا أعرف كيف يمكن الكتابة عن هذه الكتابة الساحرة في بساطتها وعمقها وسخريتها وفي تدفق لغتها ومشاهدها بروح فكاهية غاية العذوبة، في حين افتقدت كتابات مواطنهم الكاتب ميلان كونديرا لهذا الروح الفكاهية الساخرة ويحضر بدلاً منها جدية ثقافية صارمة في الغالب. كافكا هو كاتب الحرية والروح القلقة والمرحة والفكاهية الساخرة، هو كاتب القلق والتمرد على كل تقاليد الحياة البليدة، والقليل من كتاباته نشر خلال حياته، والكثير منها لم ينشر إلا بعد وفاته. ومن الكتابات المنشورة مجموعة قصصية تحت اسم تأمل، وأخرى بعنوان طبيب ريفي وقصص فرديّة طويلة هي المسخ التي نُشرت في مجلّة أدبية ولم تحظَ باهتمام، أعماله غير المُنتهية تشمل المحاكمة والقلعة وأمريكا والرجل الذي اختفى، نُشِرت تلك الأعمال بعد موته على يد صديقه المقرب ماكس برود الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته. تقول إحدى القارئات عن كافكا في موقع بيت كافكا: «حياة كافكا الخارجية واتصاله بالمجتمع الذي حوله كانت عادية، بعكس شخصيات رواياته التي كانت محاصرة اجتماعيا وتعيش في أجواء كوابيس وصراعات داخلية، كافكا ولد في براغ ودخل ودرس الحقوق في جامعتها واشتغل في شركة تأمين، والصراعات النفسية والكوابيس التي ظهرت في رواياته وقصصه كانت مرتبطة بعلاقته بأبوة المتسلط وعلاقاته العاطفية الفاشلة وعمله الممل فى مكاتب التأمين. السيرة الذاتية لحياة كافكا تقول إنه عمل موظفاً في شركة تأمين حوادث العمل مما جعله يُمضي وقت فراغه في الكتابة، على مدار حياته، كتب كافكا مئات الرسائل للعائلة والأصدقاء المقربين، بما في ذلك والده، الذي كانت تربطه به علاقة متوترة وسيئة، لم يتزوّج وتوفي عام 1924 عن عمر يناهز ال40 بسبب مرض السل. ومن أهم ما ذكر عن سيرته أنه في ليلة من الإلهام الأدبي في سبتمبر 1922 كتب كافكا قصة الحكم (Das Urteil) وأهداها لخطيبته فيليس باور، يذكر برود وجود تشابه بين اسم الشخصية الرئيسة جورج بيندمان وخطيبته فريدا براندينفيلد بفرانز كافكا، وخطيبته فيليس باور، هذه القصة دائماً ما تعتبر انطلاقة كافكا في مسيرته الأدبية، تتعامل القصة مع العلاقة المضطربه بين ابن وأبيه صاحب الطبيعة المسيطرة الذي يجد نفسه يواجه وضعاً جديداً بخطوبة ابنه، نشرت القصة للمرة الأولى في عام 1912 في لايبزيج حيث خصصها للآنسة فيليس باور وفي طبعات لاحقة فقط الآنسة ف. يقول الكاتب عارف حمزة عن كافكا إن دار زوركامب الألمانية، أصدرت له كتابا بعنوان: كافكا كاملا. جاء في مقدمة الكتاب بأنه «ليس هناك أجمل من تكريم كافكا بسيرة كوميدية في ذكرى رحيله». والمقصود بكافكا كاملاً ليس فقط سيرة كافكا كشخص وكصديق وكحبيب وكأخ، بل كذلك كرسام وصاحب نكتة، ولكن كذلك كسيرة عن والده هرمان كافكا، الذي أثر كثيراً في حياة صاحب رواية المسخ، حيث كان والده الذي عمل جزاراً وفق الديانة اليهودية، ذا مزاج سيئ بشكل دائم. وتتداخل السيرة في سير عائلة كافكا وأصدقائه القلائل وحبيباته، وشغفه الجنسي الغريب، وهلعه من الفشل الجنسي. وهذا الكتاب يقدم كذلك، كما في كثير من الكتب السابقة التي صدرت في عدة لغات وطبعات، رسومات كافكا وتقنياته في الرسم، ومحاولة فهم دواخله ومشكلاته النفسية، إذ إن الكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا (1883 – 1924) لم يكن ناثراً فحسب، بل كان رساماً، وكان يحب أن ينظر إليه كرسام معترف به. ولم يكن سوداوياً تماماً، وذلك ما جعل مصطلح «كافكاوي» يندرج في النقد الأدبي، جامعاً بين السوداوية والتراجيديا والسخرية السوداء، بل كان يحب السخرية وكذلك النكتة. بل إن هناك كثيراً من مقولاته القائمة على التضاد التي تشي بالسخرية العالية، وتميزه ككاتب ساخر. فهد العتيق بجوار صورة لكافكا وبعض المقتنيات والصور لوحة تتضمن صوراً وحارات وخريطة للمدينة التي عاش فيها كافكا بعض محتويات المتحف حارات كافكا فهد العتيق