لعلنا اليوم نحيا بفرح كبير هذا التغير النوعي والشامل في برامج ورؤى وزارة الثقافة على كل المستويات وأهمها محاولة جعل الفعل الثقافي فعلاً مجتمعياً بطبعه بعد أن عاش عقوداً طويلة في برج عاجيٍّ يتجادل فيه المثقفون وينأى عنه المجتمع شيئاً فشيئاً، وهي إذ تفعل ذلك تخطو بخطوات واثقة مستفيدة من عثرات الماضي ومستثمرة لهذا الأفق الحياتي الممتد الذي وفّرته لها قيادتنا عبر قرارات إصلاحية متنوعة وثرية نقلت المجتمع إلى مستوى متطور من الحياة العصرية، فتحوّلت بذلك مثلاً جلّ مقاهينا إلى صوالين أدبية، تقام فيها الندوات والأمسيات بوصفها حياة ثقافية عامة من خلال برنامج (الشريك الأدبي)، فضلاً عن توسيع دائرة الفعل الثقافي ليشمل فنوناً أخرى كالأزياء والطبخ والموسيقى إلى آخر القائمة. أقول بناء على هذا كله لا أقلّ من أن نحلم ببنيةٍ تحتيّة لثقافتنا غدًا، تتمثّل في العمل الجاد على انتشار المسارح في مناطقنا المختلفة، ولا سيّما تلك المناطق الواقعة في الظل، التي تحتاج فنونها إلى تدعيم مكاني يعمّق حضورها، ويؤكد رغبتنا الجادة في جعل الفنون أحد مكوناتنا الحياتية في رحلتنا التنموية الطموحة، فنحن ندرك يقينًا أن المسرح هو أبو الفنون وأولها منذ أيام الإغريق والرومان؛ حيث القدرات الخالدة المتوارثة على الموالفة بين عناصر متعددة من أشكال الحضور؛ إذْ ظل المسرح باختلاف العصور الوسيلة المثلى دائمًا للتعبير الفني، وشكَّل في كل مراحله البيت الكبير دائمًا لكل الفنانين، وهو الواجهة الحسية العينية للثقافة أنّى وُجِد يتجلّى على شكل خارطة ثقافية مجتمعية، ولعل كل هذا لا يخفى على المهتمين بهذا الشأن دائمًا، لكننا نردّده تذاكرًا، ونستدعيه حجّة حين نحلم بغدٍ ضوئي، ونحن نحيا تنمية ثقافية عملية جادة في كل مناشط الحياة، ومنها بالطبع هذه الأشكال الحياتية المتمثلة في الفن ومكوّناته، التي يعدّ المسرح الوطن الأجمل الذي تدور فيه هذه الحياة بكل أنماطها. إنّ هذا التدعيم المكاني المتمثل في إنشاء المسارح، والعمل على تعميق ثقافتنا وعلاقتنا بها، من شأنه أن ينقل المجتمع نقلة نوعية إلى الفعل الثقافي بتلقائية وعادية، فالمسرح لم ولن يكون يومًا إلا رحمًا تتخلّق فيه ولأجله رؤى ثقافية، تتماهى مع طبيعة وحياة تلك المناطق وموروثها الفني عمومًا، فضلًا عن كون المسرح ذاته ملهمًا في وجوده، إضافة إلى أنه حاضنة خالدة للمواهب، ومتّسعًا دائمًا للابتكار والتميّز والحضور، ولعلّ ما يشجّع على طرح فكرة «ثقافة المسارح» هو ذلك التكامل المطلوب بين وزارة الثقافة وهيئة الترفيه، حينما يتسع صدر المسرح لكل الأهداف والطموحات التي ينشدها كل من الثقافة والترفيه.