يمثل الفن الأداة الفاعلة التي يجسدها العقل والروح بهدف الأحكام على تجربة وترويضها، حتى لا يقتصر على مجرد لغة أو تعبير، لصالح تأسيس معاول التغيير والتحول بمدارات واقعية عينية، والنحو عن المحاكاة والتدوين السطحي، لشحذ علاقات مستحدثة تعزز الروح القوية ذات البوح الذي يقهر حدود الوسيط والمادة وتجسيد الأفكار. ليصبح الفن ذلك الإدراك الواعي المباشر الذي يغلف المبدع للولوج إلى بواطن الأشياء وتلمس الحقائق والضروريات، والكشف عن القانون النفسي الذي يختبئ خلف الأشياء المحسوسة وتفسير تكوينها، فبوصفه مظهرا جماليا تطوريا، يأتي الفن ليرتقي لأعلى أشكال التعبير البشري، كفاعلية إنسانية لا تسعى إلى الترفيه، وإنما إقلاع نحو التثقيف وتوصيل الأفكار، والتعبير عن المشاعر وتحصين المجتمعات. معرض "مسك" في صالة الأمير فيصل بن فهد للفنون: يحتضن معهد مسك للفنون (إحدى الجهات التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان) محتفى ومعرض فني (زوايا مختلفة) بصالة (الأمير فيصل بن فهد للفنون) صيف 2024م السنوي، في نسخته الثانية، بمشاركة 28 فنانا سعوديا ومقيما في المملكة، بمجموعة من الرؤى البصرية التي تشخص منظورهم حول الفضاءات العامة، وعلاقة المتلقي بها، عبر وسائط تقنية ومفاهيمية لتعزيز (منحنى ذاكرة المكان وأثرها على أفراد المجتمع)، وتقديم معادلات بصرية ذات قوالب فنية متنوعة لتصورات التفاعل الإنساني والمكان، لتبوح الشروحات البصرية بنشأة الفنان واستلهامه المحيط البيئي، والذاكرة الجمالية لطرح المكتنز والجوهر الحقيقي لهذه المدن، وتأثيرها على إنسان المجتمع. حيث شارك في زوايا مختلفة عدد من الفنانين (نوف الشريف - ميساء شلدان - هند الدويش - هيفاء القويز - وسام باهم - لطيفه النجاري - لطيفة الماضي - محمد الصنيع - محمد عثمان - محمد هزازي - ندى بركة - نها آل غالب - نواف العمري - إبراهيم العقيل - أسامة جبرتي - إيناس بيدراس - جني ملائكة - جويرية أمين - ديانا عرابي - رؤى مفرح - زينة عامر - سارة الأنصاري - عصام كابلي - علي الموسى - عمر الدايل - فاطمة العطاس - حسن آل شطي - فيدريكو اتشاردي. لتنبري عبر المشاركين أطروحات وسطح بصري ثري حيوي، ولغة بصرية مجردة تمتلك قوة تكثيف المعاني، والتواصلية مع الجمهور، عبر مسارات ومنحنيات متعددة، اشتغلت فيها التحولات الفكرية والجمالية الدور الرئيس (من الكلاسيكية حتى المعاصرة المفاهيمية) عبر المختلف والمتجدد وفوران التقدم العلمي والتقني ومواكبة الحداثي في الفن، مع التمسك بجذور قوية صلبة. ليصبح مسك هو المنصة الفاعلة والمنارة المحلية والإقليمية المسؤولة عن نشر القوالب الفنية الحديثة ودعم الموهوبين والطلائعيين، وتعزيز القدرات والإمكانات في مساحات تنبض بالفن والإبداع من مناظير شتى، لإيصال التنوع المفاهيمي في الطرح وتمكين الحوار الثقافي بين جهات الفن المختلفة. عبر رؤية طموحة لتدشين مجتمع إبداعي مزدهر يتاح به الفن للجميع والفرص ودعم الإلهام للفنانين، وتنظيم المعارض والمساحات المشبعة بالثقافة والفن والإبداع، والحوارات البصرية لتعزيز وجود الفن السعودي في قلب الخريطة الفنية العالمية. "زوايا مختلفة" ما بين تعدد الرؤى وذاكرة المكان: تحت فلسفة المعرض والتوجه المفهومي انطلقت العديد من الرؤى التي تحتفي بذاكرة المكان، وهو ما استعرضته الفنانة "نوف الشريف" عبر وسائط وتقنيات وتراكيب وألواح الأكريليك المنسابة في شفافية وليونة تستجيب للحركة وجغرافية المكان، وخريطة تجوال الجمهور داخل القاعة، بما يجعل المحيط جزءا من العمل ويعزز المفهوم، حيث شكلت الطبيعة في الطائف الملهم والشاحذ والمنبع الروحي والفكري، الذي اجتذب الفنانة للتأمل والتنقيب والتعمق التحليلي، والوعي بالحقائق والدقائق الداخلية لطبيعة منطقتها، والعمق ما بين (البصر والبصيرة - والخصوصية) الفكرية، لتصدير رؤى تعبيرية معبأة بالمشاعر والأحاسيس، وتكثيف العاطفة الجياشة التي ينفث بها (ورد الطائف)، كمحور رئيس ودلالة فكرية وبصمة إبداعية لتفرد الفنانة، لتأصيل حاله وهوية خاصة. ليحتفي توجهها الفكري بتجدد الفكر البصري وطرح إعادة التصورات، عبر تجهيزات تحتفي بقيمة المفهوم وتفاعل الجمهور والتناغم الدينامي الاتساقي بين العمل والبيئة المكانية والجغرافية (الطائف) كملهم محفز، فالفن ليس أداة للتسلية وإنما إقلاع نحو جذب المتلقي للتفاعل والتجاوب مع عناصر العمل وفكرته، واجتذابه للتجول بداخله وحوله كجزء رئيس ضمن عناصره، ليخترق بذلك الفن حدود المادية كأداة لتحسين الفهم للعالم المحيط وتلمس المزيد عن العالم عبر تصدير الاستعارات الفنية. وطرح التجهيز والتركيب البنائي (النعيم) للفنانة "ميساء شلدان" والمتزامن مع عنصر الصوت المفاهيمي والذي يقص أسطورة بداية (مدينة جدة) وعمران البلد العريق والذي شاهد عمرانها حب الحياة والفكر الإنساني الذي دشنت عليه، ليجسد العمل حالة النعيم التي غمرت الفنانة خلال فترة إقامتها الفنية في جدة التاريخية 2022م. لتعزز بذلك معاني تنطلق من موروث ومدى استلهام مجموعة العادات والأفكار والمعتقدات والطقوس لهويتها في تدشين أفكار بصفة عالمية معاصرة، ورؤية تنطلق من ذاتيتها ومزاجها الخاص المنغمس في هوية ثقافية ومجتمعية، عبر اتباع نهج مفاهيمي وتجهيزات فراغية بخامات بيئية، ترتكل إلى تعزيز المفهوم والمعاني والأفكار وتصدير العواطف الجياشة والتلخيصات الموحية التي تجتر حواس ووجدانية المتلقي داخل تجهيزاتها الفراغية الفاعلة. وجاءت الأشروحات الفنية ل"محمد عثمان"، "لطيفة الماضي"، "سارة الأنصاري" لتعتمد على الصورة، كوسيلة اتصالية في هيئة مؤثرة موجهة للهدف تراعي المتلقي وقدراته الإدراكية، وتحقيق اتصال يتجاوب معه الجميع، ووسيط للتعبير ذي تأثير يكثف المدرك الحسي لاستحضار التاريخ وتجسيد أبجدية حداثية للإفصاح عن الأفكار، وتعبئة الصور بشفرات سعياً للتمويه على المباشرة لتوجيه الذهنية لمحاولات التفسير والتأويل، والإفادة من وظيفة الصورة في صنع التأثير، كانعكاس لأيديولوجي التواصل البصري وتوثيق المشهد الحضاري والتراثي والتاريخ، لنقل الحاضر تاريخاً وحفظ أشكال التعبير الثقافي التقليدي، لتدشين أرشيف بصري ثقافي، لتكمن قيمة الصورة في كمية المعلومات الوطنية، والتفسيرات المدلولية لمحتواها وتجميد الصورة لحظة في تيار الزمن، لتشكيل إبداع بصري سعودي. *الأستاذ بكلية التربية الفنية المساعد-جامعة حلوان نوف الشريف وتجدد الفكر البصري جانب من معرض «زوايا فنية» سارة الأنصاري وتوثيق حدائق الرياض جانب من معرض «زوايا فنية»