يشهد العالم اليوم على المسرح السياسي والفكري وفي الغرب (على وجه الخصوص) سرعة التقلّبات (الشعبيّة) بين الأيديولوجيّات اليساريّة واليمينيّة بين موسم انتخابي وآخر. وهذا التقلّب السريع في المِزَاج السياسي والفكري يمكن عزوه إلى عددٍ من العوامل المعقّدة والمترابطة يأتي على رأسها حالة التفاوت الاقتصادي، والتغيّرات الثقافيّة، وانخراط (عموم الناس) في مناقشة القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة. ويبرز هنا أيضاً تأثير الوضع الاقتصادي غير المستقر في العالم الغربي ووضوح تنامي عدم المساواة في الدخل، والمعاناة التي تواجهها الشرائح السكانيّة الجديدة من جرّاءِ التحوّل نحو السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة والتقدّم التكنولوجي ومعدّلات الهجرة وعوامل أخرى أدّت إلى اتّساع الفجوة بين شرائح السكان. وهذا الحال زاد من مستويات عدم الرضا بين شرائح كبيرة من شعوب الغرب الذين ساندوا تيّارات وأحزاب يساريّة على إيقاع شعارات إعادة توزيع الثروة والعدالة أو الذهاب يميناً لدعم تيّارات اليمين التي تعد بالسياسات الحمائيّة الاقتصاديّة والوطنيّة. وهكذا بات حال الناخب الغربي وهو يعيش حالة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي والأمني باحثاً عن بصيص أمل متنقلاً بين دعم السياسات اليساريّة التي تدعو إلى تفعيل أقوى لأنظمة الدعم الاجتماعي ثم عند الشعور بالخيبة يعود لتزكية السياسات اليمينيّة أملاً في تحقّق وعودٍ مثل فرض التدابير الحمائيّة والقيود على الهجرة. على الجانب الثقافي والاجتماعي، تعيش مجتمعات الغرب تحوّلات "أو هزّات" ثقافيّة واجتماعيّة غير مسبوقة في منظومة الأعراف والقيم وخاصة في المواقف (الثقافيّة/القانونيّة) من مسائل الدين والجنس والعرق والهويّة (الجندريّة) بين اليسار بجموح سياساته "التقدميّة"، واليمين وما يعد به من صيانة للقيم التقليديّة والمحافظة الاجتماعيّة. ويمكن أن نضيف إلى عوامل التشتّت كذلك اتّساع الفُرُوق بين مبادئ اليمين واليسار وتشبّث كل معسكر بمواقف أيديولوجيّة أكثر صلابة (عدوانيّة) وأقلّ استعدادًا لتوسيع دائرة السياسات المشتركة خاصة في مجالات القيم والرعاية الاجتماعيّة والصحيّة والسياسات الخارجيّة. وهذا الوضع أدّى إلى تسريع التقلّبات الشعبيّة بين اليسار واليمين مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي التي عزّزت حالة الاستقطاب (التنافر) السياسي من طريق التضليل المعلوماتي، وتضخيم الآراء المتطرّفة في الجانبين ما أدّى مع عوامل أخرى إلى دورات تغييرات سريعة في الرأي العام ونتائج الانتخابات. ويعلّمنا التاريخ أيضاً أن الدول التي تشكّل الأحزاب والتيّارات معظم مكوّنات هويتها واتجاهات مواطنيها تعيش غالباً دورات من الانتقال السريع (من الضد للضد) بين التحرّر والمحافظة خاصّة إذا رافق ذلك أزمات اقتصاديّة، أو حروب، والغرب اليوم إمّا مسعّر حرب أو شريك في إضرام نارها. ومن هنا يمكن تفسير جانب من استجابات (تقلّبات) مِزَاج الشعوب الغربيّة لهذه الأحداث نحو اليسار أو اليمين، اعتمادًا على ما يرفعه الأحزاب والقادة من شعارات للتعامل مع هذه التحديات. مسارات.. قال ومضى: الأفضل أن تسير مستقيمًا (وَسْط) الطريق فالتوجه (يميناً) يأخذك إلى الأدغال، والانحراف (يساراً) يقود إلى التيه.