يسعى الطفل منذ ولادته غريزيًّا إلى لفت الانتباه، والتعبير عن احتياجاته وأوجاعه بكاءً أو صراخًا، فهما أسلوبه الوحيد للتعبير عن ذاته والتواصل مع محيطه، والأسلوب هنا، بمنزلة الوسيلة لغايات شعوريّة يمرّ بها الطفل، وهو طبيعيّ بل ضروريّ من أجل استمرار بقائه معافى البدن، مثبتًا كينونته الصغيرة في عالمه الجديد. يكبر الطفل، ويتعقّد داخله، وخارجه، وتحدث تحوّلات تربويّة في محيطه، بعضها صحيّ، وبعضها الآخر فيه خلل نفسيّ أو تربويّ، الأمر الذي يجعله يلجأ في حال الخلل إلى تبديل في أسلوب تعبيره عن ذاته والتواصل مع محيطه، لتمسي غايتُهُ -بعد تطوّره في المراحل العمريّة المتقدمة التي تتضمّن اللغة التعبيريّة، والممارسات السلوكيّة- مختلفةً عمّا كانت عليه سابقًا، تتلخص بإبهار محيطه الخارجيّ، وتعويض ما يشعر به من إهمال، ونقص، وعدم رضا عن الذات، لا يملك حيالها إلا أن يلفت نظر من حوله بكلّ ما استطاع من أساليب لغويّة وسلوكيّة وأخلاقيّة بغية تعويض شيء منها، ولو كان ذلك على حساب ذاته وطبيعته التي لم تعدّ أولويّته التعبيريّة بسبب تلك المشاعر. تبدأ المأساة النفسيّة عند الطفل حين يشرع محيطه القريب -ولو بحسن نيّة- بإشعاره بعدم الرضا عمّا يقوم به، وبعدم تقديرهم لما أنجز وذلك تحت حجج بالية أبرزها حثّه على الاستمرار بالنجاح، بل إنّ الكارثة النفسيّة تبرز في حال تحقيقه إنجازًا، حين تراهم ينشغلون عنه وعن إنجازه بسؤاله عن ردود أفعال الآخرين على إنجازه، وماذا قالوا عنه! تتعمّق المأساة حين لا يجد الطفل القبول من محيطه كما هو، بل يكلّفه فوق طاقته، أو يستحثّه بأساليب تلغي وجوده، وتحطّم دواخله بموازنات مع الآخرين، وسخرية وتقريع في حال الإخفاق، فبدل مناقشة إخفاقه وأسلوبه وإهماله، يجري الحديث عن ذاته وإمكاناته بأسلوب فيه كثيرٌ من الغلظة المنفّرة التي تلتبس عليه إلى حدّ قد يصل إلى شعوره بالنقص المزمن، والكراهية من قبل الموجّه والناصح؛ لتتأزم نفسيته، وتضطرب أحاسيسه، ويدخل في دوامة سلوكيات مرضيّة تكبر معه، وتصحبه جرحًا مزمنًا مع تقدّمه في السنّ؛ ليلجأ إلى سلوك همّه نيل رضا الآخر وقبوله، وأنّه قد أصبح مبهرًا!! بهذا يتحوّل الإبهار إلى أسلوب مزمن في النفس، معلنًا بداية انهيار نفسيّ، وإلغاء للذات على حساب الآخر، وفقدان ثقة وتوازن بالنفس من بوابة ممارسة تربويّة غير موفقة، دفعت ثمنها نفسٌ أضحت مضطربة السلوك، فاقدة الشعور بقيمتها وبمعنى وجودها، تجري خلف الشهرة والإبهار وتخفي العتمة والانهيار. إنّ تعديل هذا السلوك يحتاج من صاحبه إلى وعيّ به، وسعي معرفيّ ونفسيّ في رحلة استعادة الثقة بالنفس، ومحاولة إصلاحها، وطلب العون من اختصاصيين بالمجالين السلوكيّ والنفسيّ، إن لم ينجح في مسعاه الذاتيّ؛ ليعود إلى ذاته متصالحًا معها ومتوازنًا مع محيطه. د. رائد بن ثنيان الصّبح