ما أن تتجاوز القوس التذكاري؛ لا يسعك إلا أن تقف أمام أحد كنوز المكتبة: أقدم نسخة مطبوعة من الإنجيل، والمنسوبة إلى "غوتنبرغ" مخترع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر! وبالطبع هذا غيضٌ من فيض نوادر أكبر مستودع للمعرفة والإبداع في العالم: مكتبة الكونغرس الأمريكي. كنت أسمع الكثير عن ضخامة مكتبة الكونغرس، حتى وقفت وشهدت فهارس محتوياتها، التي تزيد -حالياً- عن 170 مليون مادة! ما بين كتب ومطبوعات، تسجيلات صوتيه وصور، خرائط ونوتات موسيقية، أفلام ومخطوطات، ليس فقط باللغة الإنجليزية، بل ب 470 لغة! أُسست المكتبة عام 1880م حينما وقع الرئيس الأمريكي الثاني "جون أدمز" مرسوم نقل الحكومة من فيلادلفيا إلى واشنطن العاصمة، ومنه تأسيس مكتبة "تسد حاجة الكونغرس"، غير أن إحراق القوات البريطانية الغازية لمبنى الكونغرس عام 1814م، أسفر عن تدمير المكتبة الصغيرة، مما دفع الرئيس الثالث "توماس جيفرسون" -المتقاعد آنذاك- لعرض مكتبته الغنيّة كبديل، الأمر الذي شجع الكونغرس على شرائها، ووضع الأساس لمكتبة وطنية عظيمة، واليوم توجد تلكم المكتبة الشخصية في الدور الثاني من المكتبة، كما أطلق اسم "جيفرسون" على مبنى المكتبة، تقديراً للدور الذي لعبه في تاريخ المكتبة. توقّفت طويلاً في غرفة القراءة الرئيسية، ذات السقف المقبب، والذي تظهر فيه اثنتا عشر شخصية، ترمز إلى البلاد والثقافات والعصور التي ساهمت في تطوير الحضارة الغربية، ودونها ثمانية أعمدة رخامية لثمان شخصيات رمزية، تمثل الحياة والفكر، وعلى شكل دائري تمتد 236 منضدة، تنتظر الباحثين عن المعرفة، جلست على إحداها، متأملاً هذا الصرح الذي لم يتوقف عن جمع وحفظ المنتج الفكري للبشرية. وتصفّحت فهارس المواد العربية، التي تقدر بأربعمائة ألف كتاب عربي! منها مخطوطات نادرة من القرن السابع الميلادي. أكملت جولتي في المبنى الذي صمم كمكتبة، فزخارفه مستوحاة من العلم والأدب والمعرفة، وكلما وجهت بصرك تجد رسومات ومنحوتات لكتب ومشاعل ولفائف ورقية، وكان من الملفت وجود مصابيح كهربائية، إذ أن المبنى كان أول مبنى يصله التيار الكهربائي في العاصمة الأمريكية. يسجل لأمين المكتبة "أننسوورث سيوفورد" دوره في إصدار قانون حقوق الطبع والنشر عام 1870م، الذي فرض إيداع نسختين من أعمال المتقدمين لحقوق الطبع والنشر، مما أكسب المكتبة تدفق سيلٍ عرم من المواد، وفتح الباب أمام المكتبات الوطنية الأخرى في العالم لحفظ إنتاجها المعرفي. الرائع أن المكتبة ومنذ العام 1995م أتاحت الاستفادة مجاناً من الكثير من كنوزها عبر موقعها الإلكتروني، بواسطة برنامج "المكتبة الرقمية الوطنية"، الذي تطوّر لاحقاً ليشمل الكتب والنوادر العالمية عبر مشروع "مكتبة العالم الرقمية"، التي تحتوي على أكثر من ألفي وثيقة عربية نادرة، ناهيك عن "الذاكرة الأميركية" والكثير من المجموعات والمقتنيات. بعد جولة امتدت لساعات خرجت من المكتبة الأضخم، وكلي شوق لعودة مرات عديدة، والاعتكاف بين رفوفها قارئاً وباحثاً.