إنّ على المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقنية والتكنولوجيا الابتعاد عن برامج ومواقع الذكاء الاصطناعي المُنتجة للأفكار والعلوم والأبحاث، والاعتماد التام على الباحثين الوطنيين المُتميزين فكرياً وعلمياً، وتعزيز مكانة المراكز البحثية الوطنية لتتمكن من خدمة أوطانها ومجتمعاتها.. إننا في العام 2024م، أو في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث نعيش في أزهى عُصور الثورة التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية، بفضل ما تبذله المُجتمعات الصناعية والمتقدمة، وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، من جهود عظيمة ومتميزة في سبيل التقدم والتطوير المستمر والمتواصل للارتقاء بجميع المجالات الفكرية والعلمية الهادفة لتسهيل حياة الإنسان بشكل عام، ولتحقيق مزيد من الرَّيادة النوعية لتلك المجتمعات الصناعية والمُتقدمة بشكل خاص. وهذه الثورة التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية تعيدنا وتذكرنا بالنصف الثاني من القرن السابع عشر، أو بداية عصور التنوير، حيث ابتدأت فيه الثورة الفكرية والعلمية والصناعية التي لعبت أدواراً عظيمة لتنقل المجتمعات الإنسانية، شيئاً فشيئاً، من حالة الحياة التقليدية البسيطة والصعبة إلى حالة جديدة من الحياة حيث المدنية والتنمية والتطور والرفاه، ولتتمكن تدريجياً تلك المجتمعات الصناعية والمقدمة في ذلك العصر من تعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والاستراتيجية على جميع المستويات القارية والدولية والعالمية. وعندما تُذكر الثورة الفكرية والعلمية والصناعية التي ابتدأت في النصف الثاني من القرن السابع عشر، فإنها تُذكرنا بما أصبح عليه النظام الدولي، خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، حيث تقدمت المجتمعات الغربية صاحبة الريادة الفكرية والعلمية والصناعية حتى تمكنت عقداً بعد عقد، وقرناً بعد قرن، من تحقيق الريادة الاقتصادية والصناعية والتنموية، واستطاعت فرض هيمنتها السياسية والأمنية والعسكرية على النظام الدولي. نعم، إن تلك المجتمعات الغربية صاحبة الثورة الفكرية والعلمية والصناعية في القرن السابع عشر عملت على تسخير قدراتها وإمكاناتها الصناعية لخدمة أهدافها الاقتصادية والتنموية والتطويرية، وغاياتها السياسية الأمنية والعسكرية، في الوقت الذي عملت فيه على تعزيز التبادل التجاري والاقتصادي مع المُجتمعات الأخرى مع الحرص على إبقائها بعيدة عن التنمية والتطوير والتقدم الصناعي مما يبقيها مجتمعات استهلاكية للمنتجات والإنتاج الصناعي الغربي. فإذا أخذنا هذه الحقائق التاريخية التي تُعرفنا بالأسباب التي جعلت من المجتمعات الغربية صاحبة الريادة والتقدم الفكري والعلمي والصناعي بما بذلوه من جهود عظيمة ومتصلة على امتداد القرون الماضية، وإذا أخذنا هذه الحقائق التاريخية التي تُعرفنا بالأسباب التي جعلت من المجتمعات الأخرى مُجتمعات استهلاكية بسبب تخلفها الفكري والعلمي والصناعي، فإننا نصل للنتيجة القائلة إن التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتي العظيم الذي نشهده في وقتنا الراهن، في العام 2024م، أو في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، سيؤدي إلى نفس النتيجة التي أدت لها الثورة الفكرية والعلمية والصناعية التي ابتدأت في النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث استمرارية الرَّيادة والهيمنة للمجتمعات الغربية الصناعية والمتقدمة، مع بقاء المجتمعات الأخرى مُجتمعات تابعة واستهلاكية بسبب تخلفها الفكري والعلمي والصناعي. ولكن هل هذه النتيجة، التي تبدو إيجابية لمجتمعات، وسلبية لمجتمعات أخرى، يمكن التسليم بها وأخذها على أنها حقيقة قائمة؟! بمعنى آخر، هل التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتي يؤدي لمزيد من الريادة والهيمنة للمُجتمعات الصناعية والمتقدمة، ويؤدي لمزيد من التبعية والتخلف للمجتمعات الأخرى في مختلف أقاليم ومناطق العالم؟! قد يرى البعض أن هذا التساؤل يفتقد للمنطق انطلاقاً من أن التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتي هدفه تحقيق رفاهية المجتمعات، وتسهيل تواصل الشعوب مع بعضها البعض، وتوفير الجهد والوقت والمال للشعوب والمجتمعات أياً كانت مواقعها على الخارطة الجغرافية، وبالتالي فإن لا حاجة للتفكير خارج هذه الأُطر المختلفة خاصة وأن السيادة السياسية قائمة ومكفولة بالقانون الدولي. فإذا افترضنا أن هذا الطرح المُطمئِن يُستخدم للإجابة عن ذلك التساؤل التعجبي، فإن قراءة التاريخ من جهة، وقراءة المشهد والوضع الراهن من جهة أخرى، تُعطينا إجابات مختلفة تماماً خاصة عندما ننظر للمشهد الفكري والعلمي الذي تعيشه المُجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتي الذي وفَّرتهُ وصدرته المجتمعات الصناعية والمتقدمة. نعم، إننا عندما ننظر للواقع الذي تعيشه المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتي نجد أنفسنا أمام مُجتمعات مُستوردة للتقنية وليست مُصدرة، ومُستهلكة للتكنولوجيا وليست مُنتجة، ومُستخدمة للفِكرة والمعلومة وليست مبتكرة أو مخترعة. فإذا أخذنا هذا الوصف وأنزلنَّاه على الواقع الذي تعيشه مُعظم المُجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقنية والتكنولوجيا والمعلومات، فإننا نجد مجتمعات تابعة فكرياً، ومُتخلفة علمياً، ومُخترقة معلوماتياً. فبدلاً من أن تُنتج عقولها الوطنية الأفكار الإبداعية، استبدلتها بالتقنيات الغربية المتقدمة، وبدلاً من أن تُسخِر مواردها البشرية المُؤهلة تأهيلاً علمياً لخدمة مشاريعها الوطنية، استبدلتها بالتكنولوجيا الغربية الحديثة، وبدلاً من أن توظف إرثها التاريخي والحضاري والثقافي والفكري والعلمي لبناء قاعدة معلومات عظيمة تطلع عليها الشعوب والمجتمعات الأخرى، استبدلتها بالمعلومات الغربية التي غطَّت جميع المجالات وكل المستويات بما يخدم ثقافتهم وحضارتهم واهدافهم وغاياتهم. نعم، إن الواقع المشاهد في معظم المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقنية والتكنولوجيات والمعلومات يُخبرنا بأنها مجتمعات ابتعدت إلى حدٍ كبير عن الاهتمام بالبحث العلمي الرَّصين القائم على الأُسس العلمية، وتجاهلت إلى حدٍ كبير الباحثين الوطنيين المتميزين فكرياً وعلمياً، واستبدلت ما تنتجه العقول الوطنية المتميزة العارفة بالثقافة والحضارة وحاجات المجتمع الحقيقية بما تنتجه التقنية والتكنولوجيا المُستوردة. ومما يُؤكد هذا الواقع المُشاهد في معظم المُجتمعات المُستوردة والمُستهلِكة للتنقية والتكنولوجيا والمعلومات هو الانتشار الكبير جداً لبرامج ومواقع الذكاء الاصطناعي عبر شبكة المعلومات العالمية، والتسويق العظيم لتلك البرامج والمواقع من أجل توظيفها في مجالات الإنتاج الفكري والعلمي والإبداعي بدلاً من توظيف الباحثين الوطنيين المُتميزين والمُبدعين فِكرياً وعِلمياً. وهذا الانتشار الكبير والتسويق العظيم لما تنتجه برامج ومواقع الذكاء الاصطناعي من أبحاث فكرية وعلمية يؤدي بالضرورة، عاما بعد عام، إلى مزيد من التراجع وقلة الاهتمام في مجالات البحث العلمي الحقيقي، وإلى مزيد من قِلة الاهتمام بالباحثين الوطنيين المُتميزين، وإلى مزيد من التبعية للمُجتمعات المُنتجة والمُصدرة للتقنية والتكنولوجيا والمعلومات، بالإضافة للمخاطر غير المرئية للأفكار والمعلومات التي تنتجها الالة التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية المُستوردة. وفي الختام من الأهمية القول إن على أبناء المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقنية والتكنولوجيا، الحذر مما تنتجه برامج ومواقع الذكاء الاصطناعي من أفكار وعلوم وأبحاث لخطورتها على أمنهم الوطني، ولاستمراريتها في تعزيز تبعيتهم الفكرية والعلمية والمعلوماتية لتلك المجتمعات المُنتجة والمُصدرة للتقنية والتكنولوجيا والمعلومات. نعم، إن على المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقنية والتكنولوجيا الابتعاد عن برامج ومواقع الذكاء الاصطناعي المُنتجة للأفكار والعلوم والأبحاث، والاعتماد التام على الباحثين الوطنيين المُتميزين فكرياً وعلمياً، وتعزيز مكانة المراكز البحثية الوطنية لتتمكن من خدمة أوطانها ومجتمعاتها بما يحقق مصالحها الوطنية العليا. نعم، إن المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للتقنية والتكنولوجيا والمعلومات في وقتنا الراهن أمام مرحلة تاريخية غاية في الأهمية كما كانت المجتمعات المُستوردة والمُستهلكة للمنتجات الاقتصادية والصناعية مُنذُ القرن السابع عشر.