تعزيزًا لموقفها الثابت تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وحرصها على توطيد التضامن العربي في حماية الأمن القومي وتسوية النزاعات بالطرق السلمية، ودعم الحقوق والقضايا العربية المصيرية، في منظومة إقليمية آمنة ومزدهرة، وامتداداً لدورها القيادي والريادي على المستويين الإقليمي والدولي ولثقلها السياسي والاقتصادي والاستراتيجي، وانطلاقاً من حرص قيادتها الرشيدة على ترسيخ التعاون القائم والتواصل مع قيادات الدول العربيّة، والعمل على تنسيق المواقف حيال الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك؛ شاركت المملكة العربية السعودية برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء -أيده الله- بناء على توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- في القمة العربيّة العاديّة ال 33التي استضافتها البحرين لأوّل مرّة بتاريخ 16 مايو 2024، وذلك بعد آخر قمّة عادية، استضافتها السعودية في جدة في عام 2023 وحقّقت نجاحا غير مسبوق في رسم خارطة طريق للتعامل مع كل القضايا على الساحتَيْن الإقليمية والدولية وتقديم رؤية واضحة للمشكلات والتحديات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وأخرى طارئة انعقدت في الرياض في نوفمبر الماضي وتوصلت إلى قرارات مهمة أدانت العدوان الإسرائيلي على غزة ورفض تبريره تحت أي ذريعة ودعت لوقف الحرب وإطلاق سراح الرهائن وضمان تدفق المساعدات، بالإضافة إلى ضرورة تسوية سلمية عادلة وشاملة وإقامة دولة فلسطين المستقلة. وتأتي قمة البحرين في ظل ظروف استثنائية إقليمية ودولية حرجة وبالغة الخطورة والتعقيد، وتهديدات للأمة العربية وفي مقدمتها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ ما يزيد على سبعة أشهر، وما خلّفه من أوضاع إنسانية مؤلمة في القطاع، ومعاناة الأهالي الأبرياء من عمليات الإبادة والجوع والحصار، وتدمير البنى التحتية وتواصل التصعيد والتوتر الذي يدفع في اتجاه حرب إقليمية وانسداد أي أفقٍ حقيقي أو واقعي لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في ظل ازدواجية المعايير الدولية وتواطؤ وصمت المجتمع الدولي، فضلاً عن التداعيات المختلفة لأزمات: سورية بعد عودتها للجامعة العربية، اليمن بعد جهود تثبيت الهدنة ووقف إطلاق النار، ليبيا وضرورة تنظيم انتخابات شاملة فيها، السودان وتوقيع الجيش وقوات الدعم السريع اتفاقَ مبادئ أولياً لحل الأزمة، للوصول إلى حلول سياسية شاملة ومستدامة وإنهاء الصراعات المستمرة، وتحقيق السلم والاستقرار... وجميعها قضايا أساسية لتحقيق الأمن القومي العربي، إضافة إلى التحديات الإقليمية والأزمة الاقتصادية العالمية. ومن هذا المنطلق وفي ظل هذه الظروف وأمام هذه المسؤولية التاريخية، اجتمع القادة العرب من أجل بناءِ موقفٍ عربي فاعلٍ وموحّد للتعامل مع هذه التحديات والمخاطر، بما يحفظ أمن العالم العربي ومصالحه، وللتصدي لمحاولات التدخل في شؤونه، ولتعزيز حق الشعوب العربية في الأمن والسلام والاستقرار والتنمية المستدامة. ونظرا للدور القيادي والريادي والمكانة الدولية الرفيعة والحضور المؤثر والثقة العالية التي يحظى بها سمو الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- إقليميا ودوليا؛ فقد تمّ افتتاح أعمال القمة بكلمته التي تؤكد مواقف المملكة الثابتة وتحمل جملة من الأبعاد والدلالات على عدّة مستويات. وفي هذا الإطار، تأتي هذه المقالة لتقدّم قراءة قانونية لهذه الكلمة الخالدة لولي العهد تبرز ما بُنِيَ عليها من مخرجات تضمّنها إعلان البحرين للقمة ال 33 وتُجيبُ عن تساؤل يخالج الكثيرين: هل كانت قمّة القادة العرب ال 33 قمّة استثنائيّة وتاريخية بالنظر للظروف الاستثنائية التي أتت فيها؟ لقد كانت كلمة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان كعادته قويّة وواضحة وواثقة، حيث أكّدت موقف السعودية والدول العربية الثابت من القضايا العربية وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية وإدانة الممارسات والانتهاكات الفظيعة التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم، وأهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، وإيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين وفقا للمرجعيات الدولية وعلى رأسها مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة ومبادئ القانون الدولي بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية، بحدود عام 1967، وعاصمتها القدسالشرقية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية. كما تطرّق ولي العهد -حفظه الله- إلى ما تقدّمه حكومة المملكة العربية السعودية من مساعدات إنسانية تجاوزت السبع مئة مليون ريال سعودي عبر جسور جوية وبحرية لإيصال المساعدات إلى قطاع غزة ودعمها لجهود المنظمات الدولية في ظل ما يشهده القطاع من أوضاع إنسانية مأساوية. وفي هذا السياق عبّر سمو الأمير -حفظه الله- عن ترحيب المملكة بتبني الجمعية العامّة للأمم المتّحدة بتاريخ 10 مايو 2024 قرارًا يتضمن أن دولة فلسطين مؤهلة للعضوية الكاملة في الأممالمتحدة والذي كان نتيجة للجهود الحثيثة للسعودية ودعا المجتمع الدولي لوقف العدوان الغاشم على غزة ودعم جهود وقف إطلاق النار. من جهة أخرى أشارت الكلمة إلى مواصلة السعودية تقديم المساعدات الإنسانية والدعم الاقتصادي للأشقاء في اليمن، ورعاية الحوار بين الأطراف اليمنية؛ للتوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة. وأكّدت على خطورة الوضع في السودان وتهديدات السلامة البحرية في البحر الأحمر على كل العالم ومصالحه الاقتصادية وعلى دور المملكة، كقوّة إقليمية لا غنى عنها، في عمليات المساعدة الإنسانية والإغاثية بالسودان ووقوفها التام مع جمهورية السودان الشقيقة ودعمها المتواصل لكل ما يسهم في تعزيز أمنها وسيادتها واستقلالها ووحدتها الوطنية وسلامتها الإقليمية واستقرارها وتحقيق طموحات شعبها وآماله المشروعة في السلام والتنمية والازدهار. رؤية واضحة للمشكلات والتحديات بالمنطقة في ضوء ما تقدّم، يتّضح أنّ كلمة الأمير محمد بن سلمان كانت تاريخية وضافية واتسمت بالشفافية والوضوح وجمعت بين قوّة الموقف والحكمة بما حملتْه من مضامين وتوجيهات سديدة تعكس رؤية وحنكة قائد حكيم وطموح في توقيتٍ دقيق وبالغ الخطورة، أصبح فيه العالم في حاجة ملحة وضرورية إلى صوت الحكمة والاعتدال والتعاون لمواجهة التحديات الجسام التي يمر بها. كما حملت الكلمة في ثناياها كل التحدي والعزيمة والتفاؤل والآمال والطموحات للأمتين العربية والإسلامية وذلك في قوله -أيّده الله-:"نحن على ثقة بأن ما تشهده المنطقة العربية من تحديات سياسية وأمنية لن يحول دون استمرار جهودنا المشتركة لمواجهة هذه التحديات والمضي قدماً لمواصلة مسيرة التطور والتنمية المستدامة بما يعود بالرخاء والازدهار لدولنا العربية ويحقق آمالها وتطلعاتها". وتعكس هذه العبارات الرؤى الحكيمة لولي العهد -حفظه الله- الرامية إلى تمكين الأمة العربية وشعوبها من تحقيق أهدافها وغاياتها المنشودة وإيمانه التام بأهمية التكاتف والتضامن العربي، وضرورة التعاون المشترك من أجل ازدهار ونمو ونهضة الأمة العربية واهتمام ودعم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وجهوده البنّاءة في هذا المجال. كما تؤكد قدرة المملكة العربية السعودية بكل ثقلها السياسي والاستراتيجي، وبمكانتها الدينية، وقوتها الاقتصادية، ودبلوماسيتها القوية والثابتة من جهة؛ والهادئة والمعتدلة من جهة أخرى، وطابعها الجغرافي، وعمقها التاريخي؛ على قيادة العمل العربي المشترك؛ وذلك تعزيزًا لموقفها الثابت تجاه القضايا العربية، ونهجها الراسخ في المحافظة على تاريخ الأمة العريق وتأمين السلام لمستقبلها، وتأكيداً على دورها المحوري والريادي على الصعيدين الإقليمي والدولي في تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة. ومن هذا المنطلق، كانت كلمة سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء امتداداً لإعلان جدّة التاريخي وما تضمّنه من مبادئ ومخرجات ومثّلت خارطة طريق للتعامل مع كل القضايا على الساحتَيْن الإقليمية والدولية وتقديم رؤية واضحة للمشكلات والتحديات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس فإنّ إعلان البحرين للقمة العربية ال33 ارتكز في مجمله على مضامين هذه الكلمة التاريخية، حيث تمثّلت أبرز المخرجات في التأكيد على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فورا، وخروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من جميع مناطق القطاع، ورفع الحصار المفروض عليه، وإزالة جميع المعوقات وفتح جميع المعابر أمام إدخال مساعدات إنسانية كافية لجميع أنحائه، وتمكين منظمات الأممالمتحدة من العمل والرفض القاطع لأي محاولات للتهجير القسري للشعب الفلسطيني، واتخاذ إجراءات عاجلة لوقف إطلاق النار الفوري والدائم وإنهاء العدوان على قطاع غزة، وتوفير الحماية للمدنيين، وإطلاق سراح الرهائن والمحتجزين. وأدان عرقلة إسرائيل لجهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإمعانها في التصعيد العسكري، رغم التحذيرات الدولية من عواقبه الإنسانية الكارثية. وعلى صعيد الشأن السوداني، دعت دول القمة، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى الإنخراط المباشر في مبادرات تسوية الأزمة. وفيما يتعلّق بالأزمة السورية أكد الإعلان على ضرورة إنهائها "بما ينسجم مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، وبما يحفظ أمن سورية وسيادتها ووحدة أراضيها ويوفر البيئة الكفيلة بالعودة الكريمة والآمنة والطوعية للاجئين" ورفض التدخل في شؤون سورية الداخلية، وأي محاولات لإحداث تغييرات ديموغرافية فيها وطالب برفع التدابير القسرية الأحادية المفروضة على سورية. وفي الملف اليمني أكّد إعلان البحرين على دعم مجلس القيادة الرئاسي في اليمن وتأييد "المساعي الأممية والإقليمية الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة اليمنية"، وفق المرجعيات الدولية المتمثلة في المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني اليمني وقرار مجلس الأمن رقم 2216. أما بالنسبة للوضع في ليبيا فقد شدّد الإعلان على ضرورة دعم ليبيا وسيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها ووقف التدخل في شؤونها الداخلية. كما عبر الإعلان عن دعم لبنان في الحفاظ على أمنه واستقراره والخروج من الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه. وكذلك دعم الدول العربية للأمن المائي العربي وحقوق مصر والسودان والعراق وسورية في أنهار النيل ودجلة والفرات. وإجمالا يمكن القول إنّ مخرجات قمة البحرين تضمّنت مواقف إيجابية وفعالة في مختلف القضايا العربية تعزّر الرؤى العربية الموحدّة تجاه قضايا والتحديات الإقليمية الراهنة والاستثنائية لما فيه صالح المنطقة العربية وشعوبها. ومن المنتظر أن تكون لها انعكاسات إيجابية واضحة ومؤثرة على مسار العمل العربي المشترك بصوره المختلفة، مما سيسهم في بناء مرحلة جديدة من التعاون العربي وتعزيز الوحدة والتضامن بين الدول العربية. غير أنّ ذلك يقتضي بالضرورة بلورة إستراتيجية عربية أكثر فاعلية وواقعية لتوحيد الرؤية العربية، لتتخطَّى تداعيات الأزمات، وتحقيق استقرار الأمة العربية وازدهار شعوبها. ولا يكون ذلك ممكنا إلا بالتوافق والتضامن والتعاون العربي، من أجل بلورة مواقفَ مشتركة ثابتة وموحدة ومقاربات مشتركة للتغلب على التحديات التي تؤثر على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ العالم، التي تشهد إعادةَ رسمِ خرائط العلاقات الدولية. ومن الثابت أنّه سيكون للمملكة العربيّة السعوديّة بقيادتها الحكيمة والرائدة والمبادرة ومكانتها المحورية إقليمياً ودولياً، وما تمتلكه من ثقلٍ سياسي وشراكات متينة وثقة دولية، الدورَ القياديَّ في صنع التاريخ في المنطقة العربية والعالم وبناء نظام إقليمي عربي قوي يضمن تحقيق الازدهار والتنمية المستدامة لجميع شعوب المنطقة ويحدّ من الصراعات والنزاعات القائمة. أستاذ القانون الدولي المشارك رئيس قسم القانون العام بجامعة جدة