دأبت المملكة العربيّة السعوديّة منذ عهد موحدها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيّب الله ثراه- على تقديم نماذج حضاريّة تتعدّى محيطها الإقليميّ؛ لتغدو نموذجًا عالميًّا للمدنيّة والتنمية، فقد كان مساها الحضاريّ في بناء الإنسان المتحضّر أبرز ملامح تخطيط قيادتها وبنائها، فمن المشروعات الحضاريّة الخالدة على مستوى العالم، مشروع بناء (الهجر) المتمثّل بتوطين أهل البادية؛ لأنّه استهدف بناء الإنسان، وتعليمه، ومكافحة الجهل والأمية بين المواطنين، ونشر الأمن والاستقرار في البلاد، فكان مشروعًا رائدًا لم تشهده المنطقة، ليكون نموذجًا عالميًّا في بناء الإنسان، وقد سار الملوك من بعده على النهج الحضاريّ نفسه، فكان المواطن ثروة الوطن الحقيقيّة والإستراتيجيّة، والركيزة الأساسيّة في البناء، حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهد الأمين رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان صاحب الرؤية التي غيّرت مفهوم التنمية، ورسمت معنى جديدا للإرادة الحضاريّة في وجه كلّ التحدّيات والعقبات، ورفضت معنى المستحيل، فكان مشروع نيوم. يشكّل مشروع نيوم محصلةً للرقيّ الفكريّ والحضاريّ الذي وصلت إليه المملكة العربيّة السعوديّة والسعوديون، فالعمارة تأتي بعد العمران البشريّ، فهي ثمرته، والعنوان على ما وصلت إليه مدنيّة الدولة وشعبها، والشاهد على حركة التاريخ والمجتمعات، فالأوابد والآثار المنثورة، في أرجاء المعمورة من قصور الأندلس غربًا، إلى معابد الهند وسور الصين وقلاعها شرقًا، وما شهده العالم في العصر الحديث من تقدّم علميّ وهندسيّ، كلّ ذلك أحد مؤشرات الحضارة الظاهرة والشاهدة على مدى التقدّم والتطور لأهلها، لكن ما يميّز مشروع نيوم ويجعله مختلفًا ما يقدّمه من الناحية الوظيفيّة والجماليّة والحضاريّة، وهو ما يختصره وصف سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان له، حيث قال: «هذا المشروع موقع ومكان للحالمين الذين يريدون خلق شيء جديد في العالم». فمن الناحية المعرفيّة والوظيفيّة هو فضاء لتقديم تجارب جديدة مختلف، ولجعل الخيال العلميّ واقعًا ماثلًا للعيان ليس له حدود، ولتغيير المفاهيم التقليديّة لأساليب العيش، والحفاظ على البيئة، ولإنشاء طرق جديدة للتجارة والتصنيع، فمشروع نيوم رؤية قادمة من المستقبل، لما بعد المستقبل الماثل للعيان، وهو تحدّ حضاريّ وإنسانيّ لكلّ ما يشوّه الأرض والإنسان، إذ إنّ غايته جعل العالم مكانًا أفضل على مستوى البيئة وجودة الحياة والابتكار، ونموذجًا للعيش المستدام، وللصداقة مع البيئة، والتواصل مع الطبيعة، ومحاربة كلّ ما يلوّثها، ويشوّه جمالها وطبيعتها؛ إنّه نموذج عمليّ لما ستكون عليه البشريّة، لا نظريّ معرفيّ فحسب، وهذا ما يجعله متفرّدًا من ناحية الشكل والمضمون والقيم والرؤى؛ فهو مع كلّ اهتمامه برفاهية الإنسان لم يساوم على الطبيعة، أو يضحّي بجزء منها. أمّا من الناحية الجماليّة البصريّة فهو نموذج يجمع كلّ جماليات العالم الجغرافيّة، ليكون بحقٍ أيقونة عالميّة لتضاريس العالم أجمع، فالجبل الشامخ حاضرٌ في ثلوجه ونسائمه العليلة، والصحراء بأفقها الممتد حاضنة للمشروع، والبحر وساحله وجزره تطرزه بأجمل الألوان وأنقاها، بهذا فمشروع نيوم بيئة مستقبليّة لكلّ من رام التطوّر والارتقاء في العالم، إنّه يقدّم نموذجًا عصريًّا لمفاهيم جديدة تتجاوز المفاهيم التقليديّة، ومعرفة جديدة، وأملًا جديدًا. إنّ مشروعَ نيوم من الجانب القيميّ عودةٌ إلى أحضان الطبيعة، وإلى فطرتها النقيّة، بعقليّة حضاريّة جديدة، وبإرادة سعوديّة أصيلة مستنيرة، تبتغي الخير للإنسانيّة جمعاء، وتواصل نشر رسالتها في تعزيز قيم السلام والبناء، والعدل والإخاء، والتسامح والعطاء، بفكر يزيده عمقًا وتجدّدًا وتجذّرًا في الأرض، وإرادة لا تلين، وإلهامًا لا يستكين عرّاب الرؤية الحضاريّة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الذي أكّد بصورة عمليّة لكلّ سعوديّ وسعوديّة أن لا مستحيل على أرض المملكة، فدامت مملكة العزّ، ودامت قيادتها الحكيمة ترفل بالعزّ والمجد والتمكين، ودام شعبها الأصيل الوفيّ. د. رائد بن ثنيان الصّبح