المتأمل لحركة نشوء الأدب الحديث في بلادنا، يجد أن معظم الأصوات الأدبية كانت تنبثق من منطقة الحجاز ثم انضمت إلى هذه الأصوات والأقلام كوكبة من أدباء نجد تلتها أصوات جديدة من منطقة جازان، فشكل أدباء وشعراء هذه المناطق حركة الأدب والثقافة والصحافة في المملكة وبقيت سنوات طويلة تنتج الشعر والنقد والمقالة والقصة وتؤلف الكتب، ثم لحق بهذا الركب أدباء ومثقفون من شرقنا الأخضر، إلا أن جازان قد امتازت عن بقية المناطق بخصوبة قريحة شعرائها ورفيع بيان أدبائها وغرام أبنائها بالثقافة وعشق الصحافة فلا مشاحة إذا قلنا: إن جازان أرض شاعرة ولا تكاد تفتح قاموسا للأدباء أو معجما للشعراء إلا وتبصر طائفة من أدبائه وشعرائه من جنوبنا الجميل جنوب العلم والثقافة والصمود، لقد عرف المتلقي منذ عقود عن هذه المنطقة أديبين كبيرين واكبا نمو الثقافة والأدب والتاريخ في بلادنا هما: السيد محمد بن أحمد العقيلي والسيد محمد بن علي السنوسي اللذان ارتكز عليهما الأدب الحديث في جازان ثم ما لبثت أن فاح أريج الأدب والشعر والنقد من أجيالها الجديدة فأخرجت للساحة الثقافية أسماء حملت راية الأدب الحديث وواصلت مسيرة الثقافة والمعرفة في المنطقة فعرفنا الأساتذة: طاهر عوض سلام وعلي العمير وعلي النعمي وإبراهيم مفتاح وهاشم عبده هاشم وعلوي الصافي وحجاب الحازمي وجمهرة من الأصوات الباذخة التي رفدت أدبنا في العقود الأخيرة، أسوق هذه المقدمة بعدما وقفت -بكثير من التقدير- أمام عدد غير قليل من أعمال الأديب الكبير الأستاذ حجاب بن يحيى الحازمي في الشعر والدراسات الأدبية والقراءات النقدية والكتابات التاريخية والنصوص القصصية التي تعد إضافة مهمة للمكتبة السعودية ولدارسي حركة الأدب وتطوره في جازان. في عام (1364ه) تعالت أصوات الفرح بمنزل الشريف يحيى بن موسى الحازمي في مدينة ضمد (هجرة العلم) بمقدم مولوده الجديد حجاب وبات أصحاب البيت يستقبلون المهنئين من ضواحي ضمد وقراها المجاورة، إلا أن هذا الطفل وقبل أن يكمل ربيعه الثاني حتى داهمه اليتم فرحل والده عنه وهو الذي عرف بين أفراد ذلك المجتمع كأحد علماء المنطقة المعدودين وأبرز قضاتها الذين اختارهم الملك عبدالعزيز ليكون قاضيا لمحافظة بلغازي، لكن إرادة الله كانت كفيلة أن تزيل الأسى من قلب ذلك الطفل (حجاب)، حيث قيض الله له والدته الشريفة عائشة بنت إبراهيم الحازمي التي كانت على قدر كبير من حفظ القرآن وقراءة أمهات مصادر الكتب الشرعية، فاستظهر الطفل القرآن كاملا على يدها كما درس عليها بعض كتب السنة وحفظ عنها شيئا من كتب المتون، ما جعل والدته تلحقه بكّتاب صديق والده الشيخ أحمد بن حسن عاكش فشرع الفتى حجاب يختلف إلى شيخه ويجتهد في الطلب فتلقى عنه (متن الأجرومية) و(متن البيقونية) و(ملحة الإعراب) و(الأربعون النووية) وغيرها من مصادر اللغة والشريعة، كما تردد على السيد علي أبو زيد الحازمي فأخذ عنه (متن الرحبية) وعلم الحساب؛ وفي مكتبة هذا العالم تعرف على كتب الأديب المنفلوطي وبعض الكتب الأدبية فوجدت طريقها إلى عقلة ومنذ تلك المرحلة شغف الفتى بكتب الأدب والشعر. لكن عام (1376ه) كان عاما مهما لفتانا، حيث التحق بالتعليم النظامي فانضم إلى مدرسة الشيخ القرعاوي الابتدائية ليتخرج فيها ويلتحق بعدها بمعهد صامطة العلمي الذي يبعد عن مدينته ضمد مسافة ليست بالقليلة ناهيك أن وسيلة المواصلات في ذلك العهد لا تتعدى الدواب والمحظوظ من استقل سيارة البريد في سفره، كان على الطالب حجاب أن يمضي سنوات طويلة في صامطة بعيداً عن والدته وبلدته ضمد وهو في حينه كان يعد اغترابا قاسيا، لذلك أكب على دروسه وكتبه ليمضي بالمعهد عامين في القسم التمهيدي ثم أكمل ثلاثة أعوام أخرى في القسم الثانوي فلا يعود إلى أهله في ضمد إلا في نهاية كل عام دراسي حتى تخرج فيه بنجاح وتميز، كان الشاب حجاب يتطلع دوماً نحو المعرفة فلم يكتفِ بما نال من الشهادات وما حقق من علوم وآداب ولذلك اتجهت بوصلته العلمية نحو العاصمة الحبيبة (الرياض) ليكون أحد طلاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حين كان اسمها (الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية)، حيث سافر إليها عبر الطائف بالطائرة ومنها صوب الرياض برا من خلال لواري الأبلاكاش والطريق من الحجاز إلى الرياض لم يكن مثلما عليه اليوم بل كان أغلب مراحله ترابية غير مزفتة والضياع في الطريق أمر وارد لا فكاك منه، إلا أن عزيمة هذا الشاب لا تعترف بالصعاب، فالتحق الطالب حجاب بكلية اللغة العربية منتصف عام (1385ه) وأنهى دراسته فيها عام (1389ه) بعد أن تلقى من علمائها الجهابذة وأساتيذها الكبار في تلك المرحلة، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، كما نال شهادة الدبلوم في الإدارة المدرسية من جامعة أم القرى. مع المعلمين وبين الطلاب: سنوات الطلب كانت طويلة وشاقة على الشاب حجاب الحازمي واليوم يجني تعب السنين وجهدها، لذلك انطلق يسعى في عمل يرسم له حياة جديدة فعين معلما في معهد نجران العلمي يّدرِس اللغة العربية وآدابها لمدة لم تتجاوز الثلاث سنوات؛ ليعود إلى مسقط رأسه ومدارج أحلامه ومعاهد هواه القديم، أستاذاً في متوسطة ضمد ومنها إلى ثانوية ضمد معلما وبعد سنوات قليلة ارتأت إدارة تعليم منطقة جازان إسناد إدارة ثانوية ضمد إليه لما عرف عنه من اهتمام كبير بالطلاب وكفاءة عالية في حقل التعليم رغم اعتذاره المتكرر، إلا أنه قام بإدارتها خير قيام محققا فيها كثيراً من الإنجازات العلمية والثقافية والرياضية ومن أبرزها حصولها على المركز الأول على مستوى المملكة في النشاط الكشفي عام (1401ه) وغيرها من الأنشطة، بيد أن هذا النشاط والشعور بدوره العلمي وإيمانه بهذه الرسالة، دفعه ليكون عضواً في هيئة التدريس بمعهد ضمد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ما دعا تعليم ضمد أن يكرم دوره العلمي بالمحافظة بحضور أمير منطقة جازان الأستاذ محمد بن تركي السديري فأقيم له حفل خطابي ألقيت فيه كلمات الشكر وقدمت له دروع التقدير والامتنان. عراب الأدب والثقافة: حين حطت قدما الشاب حجاب الحازمي أرض العاصمة الحبيبة (الرياض) للدراسة الجامعية انطلق يطوف على مكتباتها ويغشى المكتبة المركزية للجامعة فاهتبل هذه الفرصة ليزيد من اطلاعه ويضيف إلى رصيده الثقافي الكثير، حيث لا سبيل لقضاء الوقت سوى القراءة والقراءة فقط فكانت الرياض بالنسبة لهذا الشاب مرحلة التكوين الثقافي مثلما كانت مرحلة التزود العلمي من الجامعة، فانعكس ذلك على كتاباته ومشاركاته الصحفية والإذاعية، فدار اسمه بين الناس ولمع صيته بين المثقفين. لم تكن عشرة التسعينات الهجرية من القرن الفارط للشاب حجاب عشر عادية بل كان اسمه يتردد على صفحات الجرائد والمجلات بل كان صوته مدويا فوق منصات الأندية، فأخذ يزاحم الأسماء الأدبية الكبيرة في منطقته، فتارة يكون مشاركا في أمسية شعرية وتارة أخرى يقدم محاضرة عن (شعر ابن هتيمل الضمدي) التي خرجت في أول كتاب يصدره نادي جازان الأدبي، وفي هذا العقد أيضاً تم اختياره عضواً بمجلس إدارة نادي جازان الأدبي منتصف عام (1395ه) عند تأسيسه مع كوكبة من أدباء المنطقة، كما تم ترشيحه في دورته الثانية وتكليفه بأعمال إدارية، مما جعله يُختار رئيسا للنادي عام (1413ه) بعد رحيل رئيسه الشاعر محمد بن علي السنوسي فكان لزاما عليه أن يقدم نخبة من الأفكار التي ترفد جازان ثقافياً؛ فسرعان ما شاهدها المثقف على أرض الواقع كإنشاء منتدى الاثنينية الذي قدم للساحة أصواتاً إبداعية باذخة، كذلك أصدر النادي دورية (مرافئ) التي ضمت كتابات شباب المنطقة إضافة إلى إصدار نشرة (أصوات)، إلى جانب تأسيس سلسة الرسائل الجامعية التي أخرجت نفائس الرسائل العلمية العميقة، ثم ارتأ الحازمي إنشاء لجان في محافظاتجازان لنشر الوعي والثقافة وتبني الأصوات الأدبية، وظل أديبنا الحازمي يقدم للمنطقة عبر النادي جملة من الجهود والأنشطة التي تسعى لرفعة المنطقة حتى قدم استقالته من رئاسة النادي عام (1426ه) وسط إعجاب وثناء من كل أدباء ومثقفي المنطقة. الحازمي بين الأدب والتاريخ: كان لزاما على من أفنى زهرة شبابه قارئاً نهماً ومشاركاً نشطاً بين صفحات الجرائد والمجلات، أن يخرج على القراء بجملة مصنفات ثقافية تبرز ما يتمتع به الأستاذ الحازمي من علو كعبه في الجانب الإبداعي والتاريخي وتقصيه الدقيق في مجال البحث، ومؤلفاته تثبت ذلك وتؤكده ريشته البارعة وعمقه الواعي، فقد أخرج في مطلع حياته الأدبية مجموعته القصصية الأولى عام (1401ه) وسماها ب(وجوه من الريف) وقد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية ثم تلت هذه الطبعة ثلاث طبعات أُخر، بعد هذه المجموعة أخرج كتاب (أبجديات في النقد والأدب) عام (1405ه) تناول فيه قراءات نقدية لعدد من الكتب ودراسات أدبية لبعض القضايا الإبداعية، وبحكم فارسنا ممن عاصر التحولات التي مرت على حركة التعليم في جازان فقد أخرج للقارئ كتاب (نبذة تاريخية عن التعليم في تهامة المخلاف السليماني وتهامة عسير) ثم أعقبه بكتاب (القاسم بن هتيمل الضمدي.. حياته وشعره). علماً أن الحازمي كان شغوفاً بابن هتيمل لكأنما أحياه من مرقده فأراه وأسمعه وقد كتب عنه غير مرة وجلب من القاهرة كل ما يتعلق بشعره المخطوط فعكف عليه بالدرس والتحليل فكان لهذا الكتاب دور في أن يصدر أستاذنا حجاب كتابه إلهام عن حركة الشعر في منطقته المتمثل في كتاب (لمحات عن الشعر والشعراء في منطقة جازان خلال العهد السعودي) مما دفعه لأن يوغل في تاريخ جازان الأدبي ويخرج مصنفه الباذخ (الشعر والشعراء في جازان خلال ثمانية عقود) بعدها أعقبه بكتاب (جازان الشعر) وفي هذا المؤلَف نجده قد قرب الموارد لكل باحث ومهد السبيل لكل كاتب، كما أخرج للمتلقي كتابه (الحركة الأدبية والثقافية في منطقة جازان خلال عهد الملك فهد بن عبدالعزيز)، ثم صدر له كُتيب (من حلل الشعراء وحيلهم الفنية) دوّن فيه نماذج كثيرة من بدائع الشعراء ومُلَحهم، ومن أبرز كتبه حضوراً كتاب (التواصل الثقافي بين السعودية واليمن) دون فيه وحلل نماذج شعرية ونثرية مما أخرجته أقلام مثقفي البلدين فكان له صدى رنان في الأوساط العلمية والدوائر السياسية، ثم عَنّ للشاعر حجاب أن يجمع شوارد شعره مما تفرق في بطون الصحف والمجلات أو مما تغنى بها في الأمسيات الشعرية ليخرجها في ديونه الأول تحت عنوان (أغنيات للوطن)، وللحازمي غير كتاب تاريخي منها: (جهود الملك عبدالعزيز في تحقيق الوحدة الوطنية) وكتاب (الدور الأمني للمؤسسات التربوية والثقافية) وكتاب (من أعلام منطقة جازان) وكتاب (الأمير خالد بن أحمد السديري)، لذلك لا غرو أن يكتب عنه في عدد غير قليل من الموسوعات الأدبية والقواميس الشعرية والكتب النقدية والإعلامية لكونه لا يتعاطى فنا إلا جاء فيه مبرزاً وإذا به يأتي بكتابات تراه فيها طُلْعة نقاب متمرس. الأديب الحازمي مكرماً: كان لدور الأستاذ حجاب الثقافي حافزاً مهماً ليختار عضوا في عدد من اللجان والجمعيات والهيئات والملتقيات ذات الشأن الثقافي إلى جانب المشاركات الأدبية داخل المملكة وخارجها، ما جعله يحظى بجمهرة من الجوائز الرفيعة، كحصوله على جائزة الملك سلمان بن عبدالعزيز لتاريخ الجزيرة العربية وكذلك جائزة الأمير محمد بن ناصر للتفوق العلمي (فرع الشخصية الثقافية) ناهيك عن تكريم منتدى الاثنينية له وتكريم جامعة جازان على ما قدم لمنطقته، وإن كنت آمل أن يحظى بتكريم خاص في مهرجان الجنادرية في قادم الأيام لجهوده البحثية الرصينة، لا سيما وأن أديبنا الحازمي -حفظه الله- يعيش ربيعه الثمانين بعد أن قدم لبلاده دوراً ثقافياً لا ينكره منصف ولتبق لنا شامخاً أبا الحسن، تحوطك الدعوة الصالحة بطول البقاء وجزيل الثناء. جدة - محمد باوزير