في محفل رائد وبحضور عدد من العلماء والباحثين في آداب وتراث المملكة العربية السعودية؛ حدثنا يوما أحد علماء الانثروبولوجيا والتاريخ الاجتماعي السعودي بحرقة بالغة عن قصص التعدي على موروثنا، وكيف تم تغييبه، أحيانا دون قصد، من قبل أطراف عدة بما في ذلك كتابنا وباحثينا أنفسهم، وذلك نتيجة لغياب الوعي التراكمي لدى أجيالنا بأهمية الاعتزاز والانتماء الصادق والمتجذر بالهوية العربية الأصيلة والتعمق في تأمل أسسها وقيمها المتميزة. تهدج صوته مرارا وهو يقول: «كونوا أنتم.. كما أنتم»، لا تحاولوا كسب رضا الآخر ولا إعجابه، فثقافتكم مثار للإعجاب دون جهد أو تكلف، ثم وثقوا لأبنائكم وأبناء أبنائكم عاداتكم وتقاليدكم الموروثة التي تعرفونها عن أجدادكم وآبائكم، حتى الصغيرة منها؛ أهازيجهم وأشعارهم، فولكلورهم وأساطيرهم، لباسهم وأكلاتهم، كل شيء تعلمتموه عنهم، حتى ما قد ترونه معيبا، فهي كلها مصادر لتكريس الاعتزاز والفخر أو التأمل والتعلم في أسوأ الأحوال، ولا عيب فينا إلا ألا نفخر بهويتنا حق الفخر. والحق أن كلام هذا الأستاذ القدير يُكتب بماء الذهب، كيف لا، والجزيرة العربية (وقلبها المملكة العربية السعودية) كانت وما زالت مركزا للعالم، فهي قديما مهد الحضارات ومنبع الإيمانيات والتوحيد منذ زمن العبرانيين الأوائل، ثم مهبطا للوحي، فيها وُلد النور الكوني الأعظم، حين بُعث من أقوامها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ثم انتشرت على يد أبنائها رسالة الإسلام الخالدة في أصقاع الدنيا. أما المملكة العربية السعودية فعبر مراحل تأسيسها الثلاثة، كانت محطا للأنظار كمركز للثقافة العربية والإسلامية النقية، ثم مصدرا لثروات طبيعية هائلة تفجرت فياضة بأمر الله من تحت رمالها بعد أن منّ الله عليها بفضله، واليوم تعيش مملكتنا الحبيبة مزيدا من التقدم والريادة إذ تشهد نهضة تنموية لا مثيل لها في ظل رؤية المملكة 2030، تسابق الزمن بقفزات هائلة في مجالات العلوم والاقتصاد والفنون والآداب. ولأن الهوية تنتقل وتتشكل بين العوالم والقارات عن طريق اللغات، وتتكرس صورها، سلبا وإيجابا، بين صفحات الكتب والإنتاجات الأدبية والأبحاث وأشكال التعبير اللغوي المختلفة؛ تلعب الترجمة دورًا حاسمًا في نقل وتصوير الثقافة الخاصة لأي مجتمع، وتتيح للثقافات المختلفة التواصل والتفاعل مع بعضها البعض من خلال تفسير وإعادة تفسير النصوص التي تحمل رموزا متعددة للهوية، فالترجمة ليست مجرد تحويل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي أيضًا عملية تفسيرية تؤثر في كيفية فهم النصوص وتقديمها، مما يؤدي إلى تشكيل جديد للمعاني وبالتالي تشكيل الهوية الخاصة للنص المترجم بل ومرجعيته الثقافية بأكملها. وفي ظل التقدم الثقافي والمعرفي الذي تشهده بلادنا؛ ودعما لتوجهات قيادتنا الرشيدة؛ تنهض المؤسسات العلمية والثقافية السعودية اليوم بدورها في تعزيز هويتنا عبر فعاليات عديدة، يبرز من بينها مؤتمر يسلط الضوء على أهمية تسخير اللغة في خدمة القيم والمبادئ الوطنية، والذود عن الهوية وتكريس الانتماء لها، وهو مؤتمر علمي ريادي تنظمه وتشرف عليه كلية اللغات بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، ويحمل عنوان مميز هو هويتنا.. نترجمها. يأتي هذا الحدث العلمي الأول من نوعه ضمن جهود الجامعة، وهي منارة المرأة السعودية للمعرفة والقيم، تعزيزا لريادة المملكة العربية السعودية في التواصل الحضاري والمعرفي، ونشرا للأبحاث والعلوم والمعارف في هذا المجال. كما يمتاز هذا المؤتمر عن غيره بمشاركة حشد من طالبات الجامعة المتميزات في إعداده وتنظيمه، يقودهن شغف وولاء متقد، ومهارات إبداعية وقيادية فائقة، تذكرنا دائما بأن نكون كما نحن! شعب أراد الله له الرفعة والعزة دائما، وأننا ننتمي لوطن جبار وعظيم لا حدود لأحلامه، ولذلك نفخر بأن نترجم هويته المتجذرة وننقل إرثه العريق، بكافة لغات العالم، بأيدي شبابه وشاباته. *رئيسة قسم الترجمة بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن