مررت ذات مساء شتوي بأحد الشوارع الشهيرة بوسط مدينة الرياض عاصمتنا الحبيبة، فعادت بي الذاكرة إلى سنوات خلت إلى استعادة صورة لمساء يوم جميل وأنا أمّر (بحي منفوحة) الشهير برفقة صديق حميم، ومنفوحة أحد الأحياء القديمة المعروفة في وسط مدينة الرياض ، وقد كان يعد (واحدا من قرى) ما يعرف (بإقليم اليمامة) وقيل إن الحي سمي (منفوحة) لوقوعه في مهب الرياح التي تهب بنفح طيبها من مطلع الشمس ، عندما قال لي صديقي وهو من أبناء مدينة الرياض الحبيبة: يا صاحبي هذه (منفوحة الأعشى). حقيقة، لم تكن هذه المعلومة جديدة بالنسبة لي ، ولم تكن إشارة الصديق مفاجأة عندي ، خاصة وأنا من قد قرأ الكثير عن (حياة الأعشى) الذي له معلقة شعرية تعد واحدة من أجمل (المعلقات العشر وقيل المعلقات السبع) الأشهر في الشعر العربي الجاهلي، فقد قرأت منذ الصغر شيئا عن حياة (الشاعر أبي بصير ميمون بن قيس بن جندل) الذي عُرف عند الناس (بالأعشى) نظرا لإصابته بضعف في النظر وهو في عز شبابه ، أو أنه كان يعاني من ضعف النظر كما ورد في بعض المصادر، لكني لم أكن أتوقع أني سأكون (قريبا من أطلال) الشاعر الأعشى أو (أعشى قيس) أو أني سأمر بالحي العريق الذي قيل أنه كان يسكنه وعاش فيه فترات حياته، وفيه دفن ، الشاعر الأعشى الذي كان قاب قوسين أو أدنى من دخوله الإسلام ، وقد عزم على المسير نحو نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه ليعلن إسلامه ، وأعد لهذه الرحلة الإيمانية (قصيدة مدح للنبي) إلا أن هناك من أعاق طريقه ، وحال دون تحقيقه رغبته ، وكان على رأس من أعاقوه (أبو سفيان) وهناك حديث يطول حول ملابسات تلك الواقعة ليس هنا مجالها أو وقتها . ولهذا فعندما قلت إني لم أتفاجأ بمعلومة صديقي عن (الشاعر الأعشى) فما ذلك إلا لأني لم أنس أن قصيدته أو معلقته (ودع هريرة أن الركب مرتحل .. وهل تطيق وداعا أيها الرجل / غراء فرعاء مصقول عوارضها .. تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل / كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لاريث ولاعجل ) كانت من عيون الشعر التي استهوتنا مبكرا ، كما استهوت كل هاو للأدب والشعر ، فمن لا يجد لذة ومتعة في أن يتغنى بها ويحفظها إن تمكن من هذا . ولا أخفيك -عزيزي القارئ- أني عندما علمت من صديقي أن (وزارة الثقافة) قد أعدت خطة منذ زمن عملت عليها (لإحياء تراثنا) المفقود ، ونفض الغبار عنه في كثير من مناطقنا ، والنبش في الكثير من المواقع للبحث عن كنوزها المدفونة في عمق التاريخ ، خاصة وأن لدينا تراثا عظيما وكنوزا لا تقدر بثمن من الآثار والمواقع السياحية والأطلال ، أرى أنها عندما تجد الاهتمام وتظهر إلى السطح ، وتجد العناية ، بدون أدنى شك أنها ستضيف إلى (ساحة الأدب وفضاء السياحة) لمسة رائعة ، وستكون رافدا وخيارا من (خيارات الوجهة السياحية الجاذبة ) وستتحول إلى مقصد لكثيرين من عشاق السياحة ومحبي التراث والأدب في ظل الانفتاح السياحي على بلدنا . وقد فرحت كثيرا عندما علمت من صديقي ب(مهرجان الأعشى) تلك الفعالية التي تبنتها وزارة الثقافة وقرر لها أن (تكون محفلا سنويا) يُلقي من خلاله الضوء على حياة الشاعر السندباد الذي سافر في مشارق الجزيرة العربية ومغاربها وخارجها ، وتواصل مع مختلف الأعراق من فرس وأحباش وروم ، وتواصل مع كل الملوك ، وكان بحق (صناجة العرب) بما امتلكه من شاعرية فخمة ، رغم ما كان يؤخذ عليه سواء في بعض تفاصيل حياته التي لم ترق للناس ، أو ما ورد في بعض أشعاره ، لكنه كان شاعرا كبيرا فحلا من فحول الشعر ، يستحق أن يُقرأ ، فقد قيل أنه عندما يمدح أحدا فإن مدحه يسير في كل أنحاء الأرض فيسمع به القاصي والداني . وما زلت أتذكر مدرس اللغة العربية لنا في الثانوية ، وهو يقدم لنا درسا عن (المعلقات التي قيل إنها سبع وقيل إنها عشر معلقات كما أسلفت ) عندما كان يقرأ على أسماعنا العبارة التالية ( قيل سئل أحد نقاد الشعر القدماء عن أشعر العرب فقال: امرؤ القيس إذا غضب ، والنابغة إذا رهب ، وزهير إذا رغب ، والأعشى إذا طرب ) ومن هذه العبارة وهذا النقد ، سنعرف أننا مع واحد من فحول الشعراء العرب حقا . ولذا من حق الأجيال أن تتعرف على حياته وأشعاره وقصص عنه ، وأن يتم إبراز ما كان يحفل به (حي منفوحة) أحد أهم أحياء وسط الرياض من تاريخ وأحداث ومواقف ، من أجل حفظ تراثنا وتوثيقه وتأصيله للأجيال الحاضرة والقادمة وأتطلع إلى استمرار مثل تلك الفعاليات المهمة في حياة الأجيال لتكرس هويتهم . محمد فايع