نسأل الله وندعوه صادقين مخلصين برجاء المؤمنين (أن يتقبل منّا شهر رمضان) صلاة وصياماً وقياماً كاملاً غير منقوص، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا، وأن يتجاوز عما قصّرنا فيه، فرمضان أقرب ما يكون (بسوق إيماني) عظيم (وتجارة مع الله) لا تبور لمن وفقه الله في انتهاز كل ساعاته في الطاعة والعبادة في الصيام والقيام وقراءة القرآن الكريم، وزيارة الأهل والإخوان، فليسعد من عاشه بما يرضي ربه، ومن فرط فيه فلا يلومنّ إلا نفسه ويبقى الأمل في مواسم الطاعات التي لا تنتهي. ومع هذه اللحظات التي ودعنا فيها رمضان وطوينا فيها آخر أيامه ولياليه، فمن الطبيعي أن تكون مشاعرنا مصبوغة بالألم على فراقه كما يحدونا الشوق المتجدد للقائه من جديد مع أمنياتنا في أن يطيل الله في أعمارنا كي يعود إلينا رمضان ونعود إليه. وهنا أستعيد بعض ملامح وصور كيف كان الناس في مجتمعنا يودعون رمضان، وهم يعيشون الليلة الأخيرة منه ويهمون باستقبال أول أيام عيد الفطر المبارك؛ فمشاعر الناس مختلطة بين فرح على أن وفقهم الله إلى صيامه وأكمل لهم أيامه، وأعانهم على صيامه وقيامه، وبين حزن على أنهم سيفارقون اللحظات الروحانية التي عاشوها وتختص بشهر رمضان، كلحظات انتظار أذان المغرب استعداداً لتناول الإفطار، ولحظات وهم يسارعون الخطوات نحو المساجد للحاق بصلاة المغرب وصلوات التراويح والقيام وتلك اللحظات التي تسبق الإمساك للصيام لحظات السحور التي يجد فيها الإنسان أعظم اللحظات الإيمانية ليناجي فيها ربه بأمنياته وأحلامه وآماله ويشكو إليه أوجاعه وهمومه. صحيح أن تلك اللحظات الروحانية لا تنقطع في حياة المسلم الذي سيقضي كل عمره وهو ينعم بلذة المتعة الإيمانية، وهو يقوم بواجباته الدينية من طاعة وعبادة لخالقه كل يوم حتى يلقى ربه، غير إني هنا أقصد أن أيام رمضان ولياليه هي لحظات مباركة ولها طعم خاصة ولذة ونكهة لا يشعر بها إلا من أدرك أن رمضان عندما يرحل، فلا يعلم حقيقة (هل سيعود عليه) رمضان وهو باق من أهل الدنيا، ليعيش من جديد نفس اللحظات الإيمانية التي عاشها من قبل في رمضانات سابقة، أم قد يسبق إليه الأجل، ويكون قد فارق الحياة الدنيا! تلك المشاعر المختلطة الممزوجة بشيء من الفرح والحزن لا يخففها إلا مصافحة المسلم الذي اكتملت له أيام الشهر لإشراقة شمس صباح يوم عيد الفطر المبارك ومعانقة سمعه لتكبيرات العيد التي تنطلق من الحناجر المؤمنة: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد الله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً). أتذكر يوم كنت صغيراً من ضمن الأطفال الذي عاشوا رمضان وهم صغار في هذا السن، أن الفرحة لم تكن لتسعنا آخر ليلة من ليالي رمضان، ونحن نجوب شوارع الحي، وقد نصبت في بعض ميادينه الخالية من البيوت (المراجيح الخشبية) استعداداً لأيام العيد، وأحسبها كانت أول مشاريع (الاستثمارات الطفولية) التي شهدت شراكتنا كأطفال في (استثمار تأجيرها) على أقراننا، وعلى الأطفال من الأحياء المجاورة الذين يبحثون عن متعة الترفيه، وذلك قبل أن تأتي إلى عالمنا (الملاهي ووسائل الترفيه الإلكترونية) التي تملأ (المراكز التجارية اليوم) أو تلك التي لها (مراكز متخصصة) ومتنوعة في عالم الترفيه، الذي تنوعت فيه أساليب التسلية والترفيه والألعاب اليوم، في الليلة الأخيرة من رمضان كانت الأمهات يعملن تلك الليلة على تجديد البيوت وتهيئتها لاستقبال صباح العيد، وكان الآباء يتجهون مع أطفالهم نحو الأسواق التجارية لتأمين ملابس العيد، واحتياجات بيوتهم من السلع والأغراض، والتزود بأصناف الحلويات التي كانت تزين مجالسنا في ذاك الزمن، والقيام بتوزيع زكاة الفطر على المحتاجين فقد كان هذا من أهم واجبات الآباء ليلة العيد. بطبيعة الحال إن تلك (الصور والملامح والأنشطة) التي كنا نمارسها أطفالاً في رمضان، والطقوس الرمضانية التي كنا نعيشها صغاراً مع أسرنا، قد نمت وتنوعت، وكثرت، وأصبحت ليالي رمضان في الآونة الأخيرة، تشهد الكثير من الفعاليات، وأصبحت لكل إنسان أنشطته الخاصة به في رمضان بحسب مرحلته العمرية واهتماماته، إلا أن (ارتباطنا الذهني) يظل يستعيد بشوق وحنين رمضان الأمس، فرمضان كان يشكل (حدثاً كبيراً في حياتنا) ونحن صغار عندما نشعر بأننا (ننجح في اختبار) الامتناع عن الطعام والشراب مع أسرنا. سنظل (نشتاق إلى رمضان) ونبتهل مخلصين صادقين إلى ربنا أن يعيدنا إليه ويعيده إلينا ونحن بخير وفي صحة وسلام كي نعيش أنفاسه الروحانية من جديد، تقبل الله منكم شهركم وجعلنا وإياكم من عتقائه من النار.