كل عام يأتينا شهر رمضان الكريم ليدخل علينا البهجة، ويحفنا بالطمأنينة والسكينة فنعيش أيامه ولياليه بروحانية وإيمان؛ ولأنه شهر الرحمة والغفران نحاول جاهدين أن يشملنا الله برحمته وعفوه وكرمه، فهو شهر العمل المتواصل من أجل قضاء الوقت في استثمار أيامه ولياليه في التقرب إلى الله تعالى، والتزود فيه بالأعمال الصالحة والطاعات والمحافظة على الصلاة وقراءة القرآن الكريم وصلة الرحم. ذكرياتنا مع رمضان لا تُنسى أبداً فهي ذات مذاق خاص لا يستطيع الزمن إزالتها من الذاكرة، بالرغم من كثافة تفاصيل الحياة اليومية. وفي كل عام حين يقترب شهر رمضان يبدأ كل مِنَّا بتقليب شريط محفوظاته الذهنية، الذي يحتوي العديد من المواقف المرتبطة بهذا الشهر، منها الصعب ربما ومنها الطريف، ولكنها في النهاية هي حصيلة جميلة تضفي على الشهر الفضيل طابعه الخاص الذي نستحضره مبتسمين، وفي كل حضور لرمضان يصطحب معه هذه الذكريات، التي تتجدد في نفوسنا وكأنها تعيد أيام طفولتنا، وكيف كنا نعيش الشهر بكل تفاصيله. لا زلت أذكر أيام شهر رمضان زمان جيداً وهى تمثل مرحلة الطفولة وكأنها بالأمس، فالذاكرة تحتفظ بذكريات جميلة لا يمكن أن تُنسى، فقدوم شهر رمضان يعني استنفار العائلة كاملةً لأن له طقوساً خاصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في العام ذكريات تختزن تاريخًا لعادات وتقاليد أهالي الحي واحتفالاتهم بقدوم الشهر الكريم، فمن عاش تلك الأيام يعرف أن حلول رمضان له وقع خاص، وطقوس مختلفة تستشعر من خلالها بعبق رمضان وقدسيته وروحانيته التي تعبر عنها تلك الأجواء الرمضانية المشبعة بدفء العلاقات والتواصل بين الأهالي وروائح الأكلات الشعبية التي تنتشر في أنحاء الأحياء. "لن تأكلوا اليوم شيئاً حتى المساء" ربما تكون هذه العبارة شديدة الوقع على نفوسنا كأطفال لم يعوا جيداً أين يقبع المساء في الجدول الزمني.. وأن هذا ال(أين) سيمتد لساعات طويلة حتى نصل إليه أو يصل إلينا! وعندما نتحدث عن أول رمضان صُمناه.. فربما تتداعى لدى البعض منا ذكرياته الطريفة لذلك اليوم.. وأنه قد يكون عصبياً بعض الشيء.. ولكنه إذا انتهى بنجاح يشعرنا بالفخر.. والسعادة.. ويزداد الفرح أكثر عندما نتذكر أن غداً يوم آخر لنخوض في تجربة الصيام من جديد. أتذكر جيداً أول أيام الشهر الكريم حينما كان الجيران يتبادلون أطباق الأطعمة بينهم، وكان الأهل والأقارب يتجمعون لتناول الإفطار، وبعد ذلك يؤدون صلاة المغرب ومن ثم صلاة العشاء والتراويح، ثم تتجمع النساء مرة أخرى مع الجيران ويتجمع الرجال في أحد بيوت الحي حيث يتحدثون ويتسامرون حتى وقت متأخر من الليل، أما الشباب والأطفال فينتشرون في ساحات الحي يلعبون ويمرحون حتى وقت السحور، ليمارسوا بعض الألعاب الشعبية وبعض الألعاب الأخرى مثل كرة الطائرة وكرة القدم والتنس. أما في نهار رمضان فإن المسجد لا يخلو من المصلين وقراء القرآن من الكبار والشباب والأطفال حتى قبل المغرب، ولعل أسمى وأبرز الأعمال التي كنا نساهم بها مع الأسرة قبل أذان المغرب بساعة تقريباً هي توزيع وجبة إفطار صائم والتي لازلت ولله الحمد من العادات الإسلامية الرائعة التي تميز المجتمع السعودي. وقبيل أذان المغرب ينصرف الكبار والشباب إلى بيوتهم، ويبقى الأطفال في الساحات لانتظار أذان المغرب لينطلقوا بعد سماع الأذان مسرعين وفرحين إلى منازلهم وهم يرددون (أذن... أذن ... أفطروا). كان ما يميز شهر رمضان عن غيره من الشهور هو اجتماع العائلة يومياً على مائدتي الإفطار والسحور فلا يتخلف أحد من أفراد العائلة أبداً صغاراً وكباراً، فقبل الإفطار تنشغل الأم في إعداد وجبة الفطور في المطبخ بنفسها ويكون حولها الأبناء الصغار الذين يتابعون بشوق ما يتم إعداده من طبخات لذيذة من اللقيمات والسمبوسة وأنواع الحلى والعصيرات والشوربة، وقبيل الإفطار بلحظات تخلو الشوارع من مرتاديها ويجتمع الجميع على سفرة الإفطار في انتظار أذان المغرب وبعد الإفطار على التمر والماء وتناول القهوة وشيء من اللقيمات والعصير يؤدي الجميع صلاة المغرب ومن ثم يعودون إلى مائدة الإفطار لإكمال إفطارهم بتناول ما لذ وطاب من المأكولات الرمضانية التي تميز هذا الشهر الكريم، أما وجبة السحور، فقد كان يتم إيقاظنا ليلاً ونحن صغار، لنتناوله مع الأسرة، وابتسم كلما تذكرت أنني كنت أتناول الطعام، وأنا نصف نائم. ونظرًا لعدم وجود وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك فقد كان التلفاز يجمعنا وكم كان الحماس يبلغ أشده عند بدء فوازير الأطفال وطرح السؤال اليومي، ولم نقف عند هذا الحد بل أصبحنا نشارك العائلة مشاهدة فوازير الكبار والاستمتاع معهم بكم المعلومات والمعرفة، تلك الفوازير التي أحببناها وحفظنا حتى مقدمتها الموسيقية التي ظلت عالقة في مستودع ذكرياتنا. كما كنا نتابع بعض البرامج التليفزيونية الدينية والمسلسلات خصوصاً المسلسلات الكويتية، ومن البرامج التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر برنامج "على مائدة الإفطار" للشيخ علي الطنطاوي -يرحمه الله-. والعديد من البرامج المنوعة فمن منا لم يتذكر طاش ما طاش، والكاميرا الخفية، وجحا، وفوازير شريهان، وأبو دلامة، وأشعب، والجوهرة والصياد، ومسابقة حروف والكثير من البرامج والمسلسلات التي لازلت عالقة في الذاكرة، ومن عاش تلك الأيام الجميلة (الزمن الجميل) يعرف الفرق بين رمضان الأمس ورمضان اليوم. لم يكن رمضان مجرد شهر عابر بل حالة إيمانية وروحانية تجدد الأنفس وتعيد لها رونقها وصفاءها وتقربها إلى الله أكثر وتربط الناس ببضعهم البعض فرمضان شهر الخير العميم.