«Society of the Snow» فيلم مثير يتعمق في القصة الحقيقية المروعة الشهيرة لتحطم طائرة عام 1972 في جبال الأنديز وعلى متنها فريق كرة قدم من الأوروغواي مكون من 16 لاعبًا متوجهين للمشاركة في مباراة في تشيلي يرافقهم عدد من الأصدقاء وعائلاتهم، حيث تتعرض طائرتهم لمطبات جوية تؤدي للاصطدام بسفح جبل والسقوط وسط ثلوج عميقة ودرجات حرارة تصل للتجمد، مما أسفر عن مقتل 29 شخصًا بشكل فوري من أصل 45 كانوا على متنها بما في ذلك الطيار ومساعده، وعلى مدار 72 يومًا كان يموت المزيد. الفيلم الذي أخرجه خوان أنطونيو بايونا 2023 لنتفليكس، يبقيك في منتصف هذا الحدث سيئ السمعة (بعد فيلم Alive للمخرج فرانك مارشال الفظ عن نفس الحادثة)، بشكل مختلف وبعدل أكبر، ويجعلك تتابع شخصياته في عمل درامي ناطق باللغة الإسبانية يحمل أشد درجات الإلحاح للكفاح من أجل البقاء على قيد الحياة بخيارات قد توقف القلب، حيث نجا 27 شخصًا بعد اللجوء إلى أكل لحوم أصدقائهم وأقاربهم لإطعام أنفسهم، لكنه ليس فيلم عن آكلي لحوم البشر، ولا يصنف كأحد أفلام الرعب، إلا أنه يفوق ما شاهدته رعبًا على الإطلاق، لا بمشاهده المخيفة بل برهبة الحدث وعظم المأساة الأخلاقية فيه، بتلك اللحظة التي تدرك فيها أن ما يحدث أمامك قد حدث بالفعل مع أشخاص لا يزالون على قيد الحياة. كل هذا يتم دون أن يلجأ بايونا إلى أي مشهد دموي مباشر، بينما يغرقك في دموية الفكرة التي تمزق قلبك وسط تلك المشاهد الصامتة جدًا أثناء أكلهم أجزاء من أجساد أحبائهم لا تميزها لفرط صغرها وبياضها، يبلعونها على استحياء دون أن يتجرأ أغلبهم حتى على مضغها . تصور هذه التحفة السينمائية الصراع الشديد من أجل البقاء الذي يواجهه الناجون وهم يكافحون البرد القارس والجوع والضياع، من خلال الحفاظ على الرواية الواقعية وإضفاء العمق العاطفي عليها، ويغمر المشاهد في الظروف اليائسة التي تواجهها الشخصيات، مما يثير شعورًا عميقًا بالتعاطف والرهبة. ويضم الفيلم طاقمًا متميّزًا يقدم عرضًا قويًا ويبث الحياة في الشخصيات ليجعل رحلتهم أكثر إقناعًا، حيث يصورون فيه الاضطرابات العاطفية والمصاعب الجسدية التي يتحملها الناجون بمهارة بالغة، ويجسدون جوهر مرونتهم وضعفهم، ومع تطور القصة تخضع الشخصيات لتحول عميق، حيث تتطور من أفراد عاديين إلى أبطال شجعان يتم اختبارهم إلى أقصى حدودهم، متيحًا بذلك للمشاهد التواصل معهم على مستوى شخصي عميق. وفي «Society of the Snow» يبرز التصوير السينمائي للفيلم اتساع المناظر الطبيعية والتضاريس الغادرة والظروف الجوية لجبال الأنديز بمشهد أخّاذ وقاسٍ في آن معًا، مما يخلق إحساسًا ملموسًا بالخطر والعزلة، كما يساهم الاهتمام الدقيق بالتفاصيل والمرئيات المذهلة في نقل المشاهد إلى قلب محنة الناجين. وبعيدًا عن قصة البقاء على قيد الحياة، يتعمق الفيلم في معضلات أخلاقية جذرية تواجهها الشخصيات وهي تتصارع مع قرارات الحياة والموت، فهو يستفز أسئلة مثيرة للتفكير حول قيمة الحياة البشرية والمسافات التي يمكن أن يقطعها المرء للبقاء على قيد الحياة، وأخلاقيات التضحية في سبيل ذلك، كما يستكشف تعقيدات النفس البشرية والروابط التي تتشكل في مواجهة الشدائد، ويسلط الضوء على مرونة الروح الإنسانية والقدرة على الرحمة ونكران الذات. ورغم بشاعة الحدث ورهبته إلا أنه يمكن النظر ل»Society of the Snow» على أنه تكريم مؤثر لقوة الروح الإنسانية، فهو يحتفل بإرادة البقاء التي لا تقهر، وقوة الأمل، وقابلية إعادة هيكلة تركيبتنا البشرية بلمح البصر إذا ما تم دفعها إلى بيئة لا ترحم. لذا يعد هذا العمل بمثابة انتصار سينمائي يجسد جوهر الروح الإنسانية في مواجهة تحديات لا يمكن تصورها بفضل سرده الآسر، وعرضه القوي، وصوره المذهلة، واستكشافه للمعضلات الأخلاقية العميقة، فيقف بمثابة شاهد على قوة الناجين وتصميمهم الذي لا يتزعزع للتغلب على الشدائد، دون أن يعفيك من ثقل مثل هذه القرارات والخطوط غير الواضحة بين الصواب والخطأ في الظروف القصوى، فهو يتعمق في تلك الإشكاليات المبدئية المعقدة الناشئة من المواقف اليائسة، التي تضطرك لمواجهة خيارات تتحدى بوصلتك الأخلاقية، كما يغوص في ديناميكيات العلاقات الإنسانية في ظل الظروف القاسية، فبينما يتصارع الناجون مع وضعهم المزري، يتم اختبار علاقاتهم الشخصية، وهو يدرس روابط التضامن والصداقة والقيادة التي تتشكل داخل المجموعة، مُظهرًا تعقيدات التفاعلات البشرية، ومستكشفًا للتوترات والصراعات ولحظات الوحدة التي تنشأ أثناء تنقلهم في كفاحهم المشترك. وكما هو الحال مع أي قصة تحتوي على شخصيات متعددة في مكان واحد، يتمثل التحدي في إنشاء أطراف قصة جذابة ومتداخلة تدفع بالحبكة الدرامية للأمام، وهنا يستخدم العمل بنية سردية جيدة الصياغة تعمل على بناء التوتر والتشويق تدريجيًا، ويكشف بشكل استراتيجي عن الأحداث الرئيسية والتقلبات في هذه الحبكة، مما يبقي المشاهدين على حافة مقاعدهم، ومن خلال تقنيات الإيقاع والسرد الماهر يحافظ على شعور طاغي بالترقب، مما يزيد من التأثير العاطفي لرحلة الناجين والذي يستمر مع المشاهد لفترة ليست بسيطة بعد انتهاء الفيلم. «Society of the Snow» يتجاوز كونه مجرد قصة بقاء، إنه عمل لا بد من مشاهدته لأي شخص يبحث عن تجربة سينمائية مؤثرة للغاية ومثيرة للتفكير، ويُذكر أنه مرشح إسبانيا الرسمي لأوسكار 2024. * مملكة البحرين