زحام وشوارعٌ مغلقة وضجيجٌ يبث الحياة، كمياتٌ هائلة من البشرية تملأ الطرقات والأسواق والعيادات تأهبًا للعيد،كل شيء ينذر بتفاصيلٍ جميلة، ويشي بالبهجة، ويعلن عن الألفة والالتحام، لم يعد يُربكني هذا التكدس البشري في المحلات، بل أصبح يجعلني في حالة تأمل لهذا الفرح الذي يطفو على الناس، فهذا السباق الزمني دلالة على وهج (العيد)، ذلك الزائر الذي ما زال يحتل ذاكرتي التي عرَفتْهُ منذ سنواتها الأولى ، منذ أن كان يتمثل في حلوى وفستانٍ (منفوش) وحقيبة عيديات زاهية، منذ أن كان صوت محمد عبده يعلو في التلفاز مرددًا: (ومن العايدين ومن الفايزين)، منذ إصابة بيوتنا وأمهاتنا بانتفاضة العيد استعدادًا للضيف الأنيق، كبرنا ولم يكبر العيد، فقدنا الكثير من وميضنا وما زال هو متقدًا بالضوء، ما زال يجدد الأمل في الأرواح والحكايات والتفاصيل، ينبت في الروح كحقول الزعفران، وينبت في البيوت كمواسم النور، حتى رائحته ما زالت تحمل العبق نفسه رغم كل المتغيرات الزمنية، فالروائح قادرة على استيراد الذكريات، وقادرة على التسلل إلى دواخلنا. العيد لا يتغير ويجب ألا يتغير حتى لا نفقد ذواتنا وحتى لا تتضاءل شهيتنا للحياة، وحتى لا نقع في براثن الاعتيادية فتتشابه علينا الأيام، يجب أن تمتلئ البيوت بالحلوى والكعك وبرائحة العود، ويجب أن تمتلئ أرواحنا بالسلام والبدايات، يجب أن نستشعر تفاصيل العيد لتظل تلك الشعيرة العظيمة راسخة في أيامنا وحكاياتنا، فنراها في تكبيرات العيد وفي ضحكات الأطفال وفي أيادي الجدات المشرقة بالحناء، وحتى في زيارات العيد الخالية من المواعيد وكأن بهجة العيد قد منحت الناس صلاحية التزاور دون قيد، وسمحت للشوارع بالسهر حتى الفجر، ومنحت الجميع أحقية الاحتفال والزينة، ففي مشهد العيد تسقط كل الاختلافات ويتحد الجميع في الفرح. (العيد) محاولة حقيقية للتجديد والنمو والتخلص من الشوائب، و(رائحة العيد) جرس الذاكرة الذي يعبث بدواخلنا فيمنحها فرصة لفتح مساحاتٍ بيضاء مع الله والروح والناس.