بداية أدعو الله لي ولكم بالقبول والعون في شهر رمضان موسم الطاعات والعبادات، لعلكم تعرفون أنه كلما حضر شهر رمضان نجد أنفسنا تستدعي الذكريات التي تذكرنا بشهر رمضان في مراحل سابقة مرت علينا جميعاً، ومن الطبيعي أن يكون هناك ثمة فوارق بين رمضان الأمس واليوم نظراً للمتغيرات والتحولات التي تجري على حياة الناس والمجتمعات في كل مكان بشكل متسارع، وكذلك دورة الزمن وتغير المناخات، ولهذا دائماً ما نعيد السؤال مع أنفسنا كلما أحسسنا بأن طعم (رمضان الأمس) ربما قد يختلف عن طعم رمضان اليوم عند بعضنا، فلعل رمضان الأمس اتسم بمذاق خاص ونكهة غير كما هو إحساس بعضنا، رغم بساطة الحياة آنذاك، وهذا الرأي ليس فيه نظرة تشاؤمية أو أن رمضانات اليوم ليست رائعة؛ بل تشخيص دقيق لواقع نعايشه، فبعض الأجواء في رمضان الماضي افتقدناها في رمضان اليوم، على سبيل المثال تزاور الجيران لبعضهم بعضاً، وموائد الطعام التي تقام في «ساحات بعض الأحياء»، وتبادل الوجبات بين ربات البيوت وكانت تسمى «ذواقة أو طعمة»، وكذلك لمة الأسرة حول وجبة الإفطار. لهذا دعوني أحدثكم عن قصص كثيرة وحكايات تستثيرني من مكامنها، وتعيدني إلى تذكر أجواء رمضانات الأمس التي أجد سُرى طيفها يعانقني الآن اشتياقاً رغم حالة الحزن التي تلبستني كلما تفحصت وجوه من حولي فأجد وجوها قد غابت كانت تصوم معنا. فبعض الحكايات الرمضانية التي عاشها كثيرون قبلنا، ونفتقدها لعل بعض أجيال اليوم لا يعرفونها لأنهم لم يعيشوها، فعلى سبيل المثال الناس في (منطقة عسير) كانوا يحتفلون برمضان قبيل حلوله بأيام، إذ كانت النساء يبدأن بتزيين البيوت ابتهاجًا باستقباله فيعدن صبغ جدرانها وتجديد ألوانها بعملية تسمى (الصهار أو الخضاب ويقال لها الخضار) باستخدام بعض النباتات كالبرسيم، أو بعض المواد الصخرية كالجص الأبيض قبل مجيء (الدهانات) لدهن جدران المنزل، وكنّ في الليلة الأولى يقمن بتبخير البيوت إما (بالبخور أو العودة) التي تنبعث من كل بيت، ثم يبدأ الناس في الليالي الأولى من رمضان بالزيارات لبعضهم بعضاً وتبادل التهنئة لقدومه، وكانت المساجد تعج بالمصلين فيلتقون ويهنئون بعضهم، وكان الناس قبل حلوله بأيام يجتهدون في (تزويد بيوتهم) بالمواد الغذائية من أجل إعداد الأكلات الرمضانية الخاصة بالشهر وعلى رأس ما يتم الاهتمام بإحضاره (التمر ودقيق البر) الذي تصنع منه الأكلات الشهيرة برمضان ك(السبموسة، واللقيمات، وخبز البر، والسويقة، والمسيّلة خبز الدخن والخمير وخبز الشعير، وغيرها) التي لا تغيب عن السفرة العسيرية، وقد كانت الأسواق الشعبية تحظى بنصيب من الزيارات وقضاء الوقت عند الكثيرين ولعل أشهر الأسواق التي تنشط في رمضان (سوق الثلاثاء بأبها، سوق الخميس بالخميس، وأسواق القرى المحاورة لها كسوق الأحد بأحد رفيدة، واثنين بن حموض بالشعف، وسبت بني رزام والحبيل، وغيرها) ونظراً لأن رمضان فرصة للبيع والشراء فقد كانت تقام أسواق خاصة برمضان، فتعد المكان المفضل عند الكثيرين للشراء، والتسلية وقضاء الأوقات خاصة قبيل ساعة الإفطار. أما حكاية (مدفع رمضان) وما يثار حوله، فكلنا نعرف أن المصريين أول من ارتبطوا به واستخدموه للإعلان عن (ساعة الإفطار). وفي (منطقة عسير) ذكر لي كبار السن في (أبها) و(خميس مشيط،) أنهم كانوا يفطرون على أصوات (مدافع رمضان) التي كان يرافق إطلاقها أصوات المؤذنين، ففي أبها كونها حاضرة عسير كان (مؤذن الجامع الكبير) الواقع في (رأس إملّح) يرفع (قطعة من القماش الأحمر) ليراها المسؤول عن إطلاق قذيفة المدفع فيقوم بإطلاق القذيفة ليسمعها كل من يصل إليه صوت المدفع ثم أصبحت (اللمبة الحمراء) بدلاً عن القماش بعيد دخول الكهرباء إلى أبها وما جاورها، وكانت مدافع رمضان تنصب في الجبال العالية على قمة (جبل شمسان) وكانت به قلعة تحمل اسمه، وفي أعلى (جبل ذرة) المعروف بالجبل الأخضر وسط أبها، اليوم في ظل انشغال الناس وطغيان وسائل التواصل الاجتماعي على حياتهم (اختفى صوت المدفع) أو توارى عن الأنظار، وإن كان موجوداً فمن سيسمعه. إلا أنه يظل في ذاكرة من عاش هاتيك الأيام ولن يغادرها، ومازال الشوق يشدهم لتذكر أيام خلت عاشوها كانت تتسم بالجمال والبساطة، يتمنون لو عادت ليعيشوها.. تقبل الله صيامكم وقيامكم، ولعلنا نستكمل بعض ما قد تجود به الذاكرة الرمضانية في مقالات مقبلة إن شاء الله.