إن بي عيب خطير! وهو أنني أقرأ جلَّ ما أقرأ الكتب المترجمة، هناك شيء كان يحملني على الظن أن أدباء أوروبا وأميركا يعرفون كيف تُكتب القصص دونًا عن سواهم، ففي الأدب الروسي تجد تحليل العواطف يلتهم أسطر القصة، وتلقى الأحداث لا تكاد تُدفع إلا شيئًا يسيرًا، وإن لم تكن قارئًا نهمًا فأنت ملقٍ بالكتاب ولا شك بينما لا تزال في بدايته، هذا على الأقل قبل أن أتعرف إلى ليو تولستوي إحدى أفضل الشخصيات الأدبية على الإطلاق، لكن الروايات الفرنسية والبريطانية والأميركية تتابع فيها الأحداث سريعًا وتتعدد الشخصيات وتلتهب المواقف ويبرز غموضٌ لا ينفك ينجلي إثر كل صفحة ولا يستغرق المؤلف في الوصف حتى يكاد ينسى عما كان يكتب في الأصل، وللأسف فإن كثيرًا من الروايات العربية التي كنت قد شرعت في قراءتها قديمًا كانت في مجملها لكأنها خاطرة، لكأنها قافية في شعر أو سجع في نهاية نص نثري بديع، يمكن قراءتها لإثراء لغتك، يمكن قراءتها للاستمتاع بمذاق الحروف اللذيذ على شفتيك، يمكن قراءتها لرحلة روحية شديدة العذوبة بالغة الرقة، لكنك لن تقرأها حتمًا للغوص في تفاصيل حياة أخرى تنتشلك من أرضك إلى رحلات بعيدة خلابة وترمي بك حيث بيوت أخرى تراقب فيها أناسها يعيشون حياتهم دون مواربة، بالطبع تجرأت يومًا ما أخيرًا وقرأت لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وغيرهم وأولهم أكيد لهو العرّاب أحمد خالد توفيق والذي لم تحوي رواياته حقيقة غير الأحداث والقصة والشخصيات فحسب بأسلوب محبب وجميل وقريب للغاية من ثلة مراهقين سريعي الملل، واكتشفت كم كنت مخطئة، نعم، النص الخلاب والقصة الملهمة يمكن لهما قطعًا أن يجتمعا معًا! واليوم حين وقع في يد المرأة الناضجة مني كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» سعدتُ جدًا لحالة الاستغراق والتلذذ التي اعترتني، وكانت معرفتي بأن هذه الكلمات ليست مترجمة عن لغة أخرى بل هي للكاتب نفسه منقولة كما خطها بقلمه منذ مئات السنين.. هذه المعرفة أنعشت روحي وأمتعتني غاية الإمتاع! وحينما فُتحت لي بوابة عوالم نجيب محفوظ استغرقتني الحيوات التي ينسجها حتى ما عدت أستطيع المغادرة قط، وغصت حتى أذناي في بحر لجي لا قرار له، نعم، إن نجيب محفوظ سيد القصص وسلطان الرواية، وشخصياته التي ولدت على يديه تتجسد دونك حية حاضرة، تحلم وتبكي وتتوجع وتتيه وتتخبط وتقع في الحب وتمر بها الليالي الطوال مؤرقة مسهدة، وما وجدت في براعته إلا ما فاق الأدب الغربي منها، وعجبت من نفسي أين كنت عن كل هذا؟! يوسف إدريس صاحب القصص القصيرة العميقة، جبران خليل جبران الذي هام الغرب بشعره وخاطراته، إحسان عبد القدوس، نازك الملائكة التي لا أكاد أقرأ لها قصيدة إلا ووجدت تاريخي وعاطفة قلبي كلها مهرقة في بيتٍ منها، مي زيادة الرقيقة، عائشة بنت الشاطئ، كونٌ زاخر ممتلئ يفيض بهم، أدباء العربية العظام.. لذا لتنعم بالتبحر في روايات تولستوي الطويلة، وفي أحزان فيكتور هوغو التي لا تنتهي، استمتع بغوستاف وستيفين كينج وحتى أجاثا كريستي، لكن لا تنسى أن تمكث هنا قليلاً، وخذ دقيقة للتأمل في هذا: أنت تقرأ ما خطته يد الكاتب، دون واسطة، دون ناقل، دون حروف وتعبيرات ومشاهد كاملة جرى التلاعب بها، فإذا ما أضفت لذلك الحياة في بيئة هي الأقرب لك والقراءة عن أناس جاورتهم أو عبرت بهم أو كنت أنت أحدهم ذات يوم فإن الأدب العربي لا بد وأن يكون الأقرب لك.